السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

ما بعد «نوموفوبيا»

ما بعد «نوموفوبيا»
د. محمد شطاح مدير برنامج الاتصال والإعلام بجامعة العين - أبوظبي

كنت جالساً بمقهى بأحد «المولات» أرتشف فنجاناً من القهوة، سارحاً مع مقطع من بيت قصيدة «كباية شاي» للشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي يقول فيها:

«على كرسي ف قهوة في شارع شبرا قعدت.. وجابلي كباية الشاي الجرسون، كباية شاي القهوة غير كباية شاي البيت خالص..».


وهو مقطع أستذكره كلما طلبت فنجان قهوة خارج البيت، لأن لـ«قهوة المقهى» نكهة خاصة لا نجدها في «قهوة البيت»، على الرغم من طريقة تحضيرها وإعدادها.


لحظة مرّ أمامي رجل محترم في سنه وهندامه ومشيته، وفجأة توقف وتجمد ثم تحسس جيوب بدلته، ثم ولّى مسرعاً الخطى، ثم راكضاً، وصعد السلم عكس اتجاه السير، عرفت من البداية أن الشخص نسي أو فقد شيئاً ثميناً، وما إن بلغ نهاية السلم حتى قابله شخص وسلمه شيئاً، عرفت عندما استدار ليعود إلى حيث كان، أنه هاتفه المحمول، فرحت أنا أيضاً، خلسة، أتحسس جيوبي حتى أطمئن على هاتفي نتيجة حالة الاستنفار التي شاهدت.

هذه الحالة يطلق عليها في عالم أمراض تكنولوجيات الاتصال «النوموفوبيا» أي Nomophobia وتعني No-mobile-phone phobia وهي «رهاب فقدان الهاتف الجوال أو التواجد خارج مجال التغطية».

إنه مرض طال جميع الفئات العمرية، وجميع الشرائح الاجتماعية، والإدمان على الهاتف الجوال مرتبط بطبيعة استخداماته، فالبعض يستخدم الجوال في الدردشة، وآخرون يستخدمونه لمتابعة الأخبار، وبعضهم يستخدمونه للاتصال والتواصل، وفئة أخرى تستخدمه في مآرب أخرى!

وأصبحت الوسيلة من أهم أدوات العقاب على صعيد الأسرة، بل صارت أداة للثواب والعقاب في حد ذاته، فيعد الوالد ابنه إن نجح في الامتحان بجهاز «سامسونغ أو آيفون»، والعكس إذا رسب أو حصل على نتيجة غير مرضية فيكون جزاؤه الحرمان من الهاتف أو أي وسيلة تشبكه مع مواقع التواصل الاجتماعي.

وتشهد قاعات التعليم في كل أنحاء العالم من مدارس وجامعات، حالات من الكرّ والفرّ يومياً بين الطلاب والقائمين على العملية التعليمية من سحب ومصادرة للهواتف الجوالة، ويحدث أن يصاب بعضهم بحالة انهيار حال مصادرة هذه الأدوات منهم، أو تغيير مكان الجلوس، بعد أن اجتهد في اختيار المكان المناسب من حيث التغطية، أو بعد أن سهر الليالي من أجل تحضير وإعداد عدة «الإجابة» في المادة المقررة.

لقد تطورت أعراض النوموفوبيا، فهي عند الأطفال، الخوف من التواجد في أي مكان، يعيق عمل الهواتف والحوامل، وعند الشباب الخوف من أي انقطاع للشبكة يعزلهم عن التواصل مع رفقتهم وخلانهم، وهي في كل الأحول الخوف من الوحدة والعزلة والغربة في هذا العالم المتشابك.

طلبت المعلمة في إحدى المدارس الابتدائية من تلاميذها أن يكتبوا موضوعاً يطلبون فيه من الله أن يعطيهم ما يتمنون، فكتب أحد التلاميذ:

«إلهي، أسألك هذا المساء طلباً خاصاً جداً وهو أن تجعلني جوَّالا! أريد أن أحتل مكاناً خاصاً في البيت! وأصبح مركز اهتمامهم فيسمعوني دون مقاطعة أو توجيه أسئلة.. أريد أن أحظى بالعناية التي يحظى بها حتى وهو لا يعمل! أريد أن أكون بصحبة أبي عندما يصل إلى البيت من العمل حتى وهو مرهق، وأريد من أمي أن تجلس بصحبتي حتى وهي منزعجة أو حزينة، وأريد من إخوتي وأخواتي أن يتخاصموا ليختار كل منهم صحبتي.. يا رب إني لا أطلب منك الكثير أريد فقط أن أعيش مثل أي جوال!»

هذه الحالة هي أعلى مراحل النوموفوبيا، أو قل إنّها مضاعفات نوموفوبيا الجوال، صادرة عن صرخة بريئة، لطفل بريء، خائف، مصدوم، يبحث عن عطف وحنان، واهتمام، ورعاية، صادرها منه الهاتف الجوال.