الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

من «شارع المتنبي».. غيّر «سلامة موسى» حياتي

من «شارع المتنبي».. غيّر «سلامة موسى» حياتي
كريم السيد كاتب وإعلامي ـ العراق

ذات صباح صيفي في شارع «المتنبي»، وسط بغداد، قِبلة المثقفين العراقيين، وبينما كنت أمرّ بين بسطات الكتب التي تُباع بنظام سعر واحد (كتاب بـ1000 دينار عراقي ـ أقل من دولار أمريكي واحد)، وهي طريقة بيع شائعة منذ تسعينيات القرن الماضي إبّان الحصار الاقتصادي على العراق.

كان البيع بثمن بخس قياساً بأسعار الكتب المعتادة، وهي بالعادة من المطبوعات القديمة أو غير المطلوبة من القراء، أما نوعيتها فتتباين، ولعل المطبوعات المنسوخة غير المهمة هي الأكثر، إلا أنها قد لا تخلو من كتب ثريّة وثمينة، وربما نفيسة، تُركت في غفلة بين زحمة العناوين، واستقرت بهدوء بين صناديق الكتب، لتجد طريقها إلى بسطة على الأرض، تحت شمس لاهبة.


بين زحمة الكتب والأرجل، لمحت كتاباً بغلاف قديم، وورق أصفر رث شبه مُتهرئ، تصميمه الخارجي جذبني.. لفت نظري، بالرغم من زحمة الورق والأغلفة، أما العنوان الأكثر جاذبية، فكان اسم كاتبه «سلامة موسى»، وهو كاتب عربي مصري فذّ، ويعتبر أحد أهم الكتّاب التنويرين والمؤثرين والموسوعيين، لديه عشرات المؤلفات المهمة في الوعي والتنوير، وفي مختلف مجالات المعرفة والحياة.


وقبل الحديث عن الكتاب، دعوني أتحدث عن سلامة موسى، فقد لا يكون رمزاً لجيلنا المعاصر، لكنه كان مفكراً مؤثراً في جيل ما قبل الستينيات وما بعده، لفتني من هذا الاسم لأنه ورد في مؤلفات كاتب ومفكر عراقي كان يشيد به ويستشهد أيما استشهاد، والحديث هنا عن د. علي الوردي، الباحث الاجتماعي الفذ، والكاتب المؤثر جداً في جيلنا.

من ذلك الوقت حفظت اسم سلامة، وقلت بنفسي: معرفة ما يكتبه سلامة أثمن بكثير من سعر الكتاب.. لنرى كيف يفكر هذا الرجل؟ وماذا يكتب؟ وما الذي يثيره ويهمه ويستفزه؟

الكتاب، محل الحديث، كان عنوانه «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ» وبعد قراءته اتضح لي: أنني لا أبالغ لو قلت أنه تُحفة معرفية وسياحة فكرية ثقافية، هذا الكتاب غيّر لي حياتي.

تقول الممثلة الشهيرة «هيلين هايس» في مقابلة لها عن أهمية القراءة: «تتعلم من والديك الحب والمرح وكيف تضع قدماً قبل الأخرى.. ولكن عندما تفتح الكتب تكتشف أنك تملك أجنحة».. هذا بالضبط ما شعرت به، وعشته، فقد أعطاني كتاب سلامة موسى أجنحة، وخط طريقي نحو الشغف بالمعرفة، فالقارئ فيه سيتكوَّن لديه، إضافة إلى متعة القصص وحبكتها، تصوّر تاريخي عن خريطة الفهم، والسلوك البشري لقرون مظلمة من تاريخ الإنسان.. عشرات الأفكار ووجهات النظر التي شكلت جريمة ثقافية وتهمة لقائليها، فكانت عقوبتها قاسية جداً مع أي قول مخالف لعادات الناس وطبائعهم.

كانت صفحات هذا الكتاب وحكاياته أشبه بماء بارد نزل على روحي ووعيي الشاب، الذي كان يتشكل في تلك الفترة، فقد كنت أعيد المقال والقصة مرة ومرتين، على طريقة عباس العقاد الذي يقول: «اقرأ كتاباً جيداً 3 مرات، أنفع لك من أن تقرأ 3 كتب جيدة».

ولذا، كنت أتأمل حكاية كل بطل صُلب على مقصلة الحرية، لأنه قال مثلاً: «إن الأرض كروية»، أو«أطلق رأياً في الفيزياء أو الكيمياء أو الفلسفة»، أو لعله قال رأياً: «أزعج الثوابت والثابتين، والحاكم والمحكومين».

لقد كانت المشانق والمقاصل والمذابح والمناحر، نهاية لحكايات رجال لم أسمع بهم من قبل، نهايات تراجيديا لأبطال الفكر والرأي والكلمة.. كنت أسمع صوت الظليمة بين صفحات الكتاب الصفراء البالية، والحبر الذي جفَّ، ورحل مثل كل هؤلاء الأبطال وكل الحكايات الثمينة التي غيرت العالم، وها هي ذي، بسعرها الرخيص وقيمتها الكبيرة وجهود السنين، مرمية أمام بائع بغدادي، تحفُّه المؤلفات من كل اتجاه.