الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

«التشويش».. بارومتر العلاقات الإنسانية

«التشويش».. بارومتر العلاقات الإنسانية
د. محمد شطاح مدير برنامج الاتصال والإعلام بجامعة العين - أبوظبي

في مؤلفه الشهير «فن الخطابة» يقول أرسطو: «يراعي المرء أثناء الحديث، ترتيب أجزاء القول»، وهو صاحب أول نموذج للاتَّصال أوضح فيه أن عملية الاتصال تقوم على 3 عناصر هي: الخطيب، الخطبة، والجمهور، وأن نجاح الخطبة يتوقف على بلاغة الخطيب وفصاحته، وقدرته على الحِجاج دفاعاً عن فكرته، وعن قدرته في إقناع المتلقي والتأثير فيه، وترتيب أجزاء القول يعني تنظيم المحتويات المرسلة، وتنظيم الانتقال في جزئياتها من العام إلى الخاص والعكس صحيح.

أوردت هذا المدخل للإشارة إلى أنه منذ بدء الخليقة شعر الإنسان بالحاجة إلى التواصل مع الآخر فاستخدم الإشارات دهراً من الزمن ثم استخدم اللغة، ثم اكتشف الكتابة المصورة كما هو في النقوش والرسوم على الجدران في الحضارة القديمة، ثم اكتشف الحرف فاستخدمه مخطوطاً ثم مطبوعاً، ثم مرسلاً عبر الأثير، ولاحقاً عبر الأقمار الصناعية، كل هذا الجهد من أجل إيصال الرسائل إلى المستقبل في كامل الدقة والوضوح. ورغم كل هذه المجهودات ظلت رسائل الاتصال تشوبها حالات من عدم الوضوح، أو سوء التفسير، أو سوء الاستقبال من المتلقي. يطلق على هذه الوضعيات في عمليات الاتصال، «التشويش ـ Noise». يعود الفضل في إضافة التشويش أو«الضوضاء» إلى عناصر عملية الاتصال، إلى العالمين الأمريكيين شانون وويفير Shannon, C. E., & Weaver, عندما قدما نموذجاً للاتصال اعتبر حينها «أبوالنماذج»، حيث تناولا فيه موضوع التشويش من خلال تجاربهما في مجال هندسة الاتصالات.


والتشويش أنواع، منها: التشويش التقني أو الهندسي، ويحدث عادة نتيجة وجود عائق فني كانقطاع الكهرباء أو شبكة الإنترنت، أو خطأ مطبعي يعطى معنى آخر للموضوع، كأن يدون زميل في رسالة عبارة «تمنياتي لكم بالشقاء» وهو يقصد الشفاء، أو يكتب بدل عبارة «صباح الأمل» عبارة «صباح الألم»، أو يدون كلمة «محنة» بدل «منحة»، أو«يلعن» بدل «يعلن».


وهناك التشويش السيكولوجي، ويقع عندما يرسل القائم بالاتصال محتوى أو رسالة للمتلقي وهو في وضعية نفسية غير مستعدة للاتصال أو فهم واستيعاب الرسائل، وقد حدث هذا مع فيلم «اليوم التالي» الذي كان موضوع حديثنا في مقال سابق (انظر الرؤية بتاريخ 30-10-2020). حيث أدت مشاهدة الفيلم إلى زيادة حالات اليأس، وبلغت حد الانتحار بسبب الأجواء الدولية المتوترة آنذاك، والخوف من نشوب نزاع نووي بين القوتين الأعظم في تلك الفترة.

وأخيراً التشويش اللغوي (الدلالي)، وهو أخطرهم على الإطلاق، فكلمة «يُعيّط» في المشرق العربي تعني «البكاء»، فلو قال مغاربي لمشرقي «ما تعيطش» لاعتبرها المشرقي إهانة، ولقامت القيامة لأنها تعني ببساطة البكاء أمام الآخر، وهو شيء مشين عند الرجال، في حين تعني لدى ساكنة المغرب العربي «المناداة» أو «التحدث بصوت مرتفع»، وقد يؤدي التشويش إلى نسف العلاقات بين الأفراد، أو إلى التوتر في العلاقات بين الدول والحكومات. ويحدث عندما يتم تفسير الرسالة عكس ما يبتغيه المرسل، أو يتم التضمين من المرسل، والتأويل من المتلقي.

خلاصة القول، أن التشويش (بكل أنواعه) في ضوء هذا المنظور هو السبب الرئيسي في نجاح أو فشل عمليات الاتصال، لذلك نقرأ ونسمع يومياً في الأخبار عودة الدفء إلى العلاقات، أو عودة أجواء الحرب الباردة، أو بروداً في العلاقات بين هذا البلد وذاك، وهي أسماء و تعبيرات مرتبطة بمفهوم واحد هو التشويش.. إنه بارومتر لقياس حرارة العلاقات الإنسانية، بين الأفراد، وبين الدول والحكومات، فكلما ارتفعت درجة التشويش في الاتصال اتجهت العلاقات، نحو التشنج والتوتر، وكلما تدنت درجاته اتجهت العلاقات نحو الدفء والوئام، والتفاهم والتعاون، وما أحوج الإنسانية اليوم إلى دفء في العلاقات في ظل الظروف التي يمر بها العالم.