الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

على خطى «الأخوان زانجاكي».. والحضارة الأمازيغية

على خطى «الأخوان زانجاكي».. والحضارة الأمازيغية
سميرة الحوسني باحثة وتربوية ــ الإمارات

كنتُ أصوّر المشاهد التاريخية في ذهني لأجعلها تحفاً أثرية أرويها للمهتمين بسردي القصصي، إلا أن تصويري لم يكن بكاميرا فوتوغرافية، مثل كاميرا الأخوين زانجاكي أشهر مُصوريّن يونانيين ارتبط اسماهما بتاريخ مصر والجزائر السياحي في القرن الـ19 الميلادي.

كنتُ أحفظ القصص، وأدونها تارة، وأبتكر عليها تارة أخرى، حتى اتسعت مخيلتي لأروقة وجدران وأعمدة ونقوش وقرى في أحشاء الأرض، ومساند تحمل من الكتابات وأسرار البشر الأوائل ما يزن مئات الآلاف من السنين، وليس في ذلك مجرد تاريخ وحجارة نصفق فرحاً بالعثور عليها، بل لأن اكتشافها وإعادة اكتشافها وهبانا إبداعاً عرضه السماوات والأرض.. إنه الإبداع المستدام، الذي كلما أعدتَ قراءته اكتشفتَ طوراً جديداً منه، يودي بك إلى جادةٍ أحدث، وعمر أطول من النماء لمخلوقات متنامية لا تستطيع العيش دون تجديد.


فتنتني الصحراء العربية من شمالها لجنوبها، وعشقتُ تفاصيل وتراث شعوب الصحراء العربية الكبرى أيضاً، فهي امتداد الشمال الإفريقي المرصع بمناجم الذهب والأحجار الكريمة، فحتى هذا اليوم لا يوجد منجم زاخر بثروة من لآلئ الصحراء وعروق الأحجار الكريمة كمنجم القارة الإفريقية الضخم المتكاثر الذي لا ينضب.


لم أفتتن بمناجم إفريقيا من أجل بريق الألماس في حوزة الأثرياء، بل أكثر ما هالني هو البريق القادم من الإنسان نفسه، فكيف تكون الأرض هي الأكثر إخلاصاً ووفاءً لكل مخلوق عليها!.. إنها لا تمحوه نهائيّاً من هذا الوجود بعد موته، بل إنها تحول كل الأجساد التي تسكن باطنها لكنوز من الأحجار أو نفط أو كل معدن يبحث عنه الإنسان ليجده في الأرض، ومن بقايا الإنسان نفسه، كنتُ دائماً أستعيد جمال الإبداع في نشأته الأولى، كنتُ أقرأ يوماً في حضارات ما قبل التاريخ، وكنتُ حينها في أولى رحلاتي الاستكشافية في كتب الحضارات، وتسمرتُ مذهولة من العمر الطاعن لحضارة شمال إفريقيا وتحديداً الحضارة الأمازيغية من واحة سيوة المصرية وحتى الأمواج المرتطمة على سواحل الأطلسي في أقصى المغرب.. تلك الحضارة التي استلت فنونها الإبداعية في الملبس و المأكل و الزينة من عدة ثقافات في تاريخ الحضارة الإفريقية، من الثقافة الوهرانية والقفصية وبعض من السبيلية التي تفاعلت مع القفصية لتكوّن جميعاً الحضارة الأيبرومغربية، التي كان يعتقد بول بالاري مكتشفها أنها ترتبط بالباليوليت الأعلى شرق إسبانيا.

فمغارة كلومناتا الجزائرية إحدى أهم المغارات التي تمتلك حتى هذا اليوم التاريخ الأول للثقافة الوهرانية، والتي تميزت بأدواتها الميكروليثية، أي أنها تحوي أحد أهم أدوات التكنولوجيا الأولى للإنسان بعد الملبس، تلك الأدوات التي لا تزال تشكل تصاميم الحُلي الأمازيغي في شكله التقليدي الكلاسيكي قبل أن يُدجن بالكهرمان والزُمرد الأزيلي.

لعلنا لو طفنا الجزائر وحدها لوجدناها كتلة من المغارات والكهوف، التي تحمل في داخلها فلسفة الحياة الأولى لشعوب وبشر مختلفين، ولكنهم متفقون على أن مكوثهم في مثل تلك المغارات كان أشبه بمنتجع لخلود الفكرة ولترسيخ الإبداع، سواء كانت لحماية الهاربين، الذين لم يكونوا غالباً لصوصاً بل على العكس كانت مأوى المبدعين، مثل الروائي النادر الإسباني الهارب إلى مغارته التي سُميت باسمه في الجزائر مغارة سرفانتس، أو كما أسميها مغارة الدونكيخوت، نسبة لعمله الأدبي الخالد المتربع على قائمة الأدب الثمين.. إنها ليست مغارات اللصوص وقطاع الطرق، بل إنها مغارات: التاريخ الأول، والفكرة الأولى، والإبداع الأول.