الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

«فُصحى العصر».. وتعريف التطور

«فُصحى العصر».. وتعريف التطور
آية رائد حسن محللة استراتيجية وكاتبة ـ فلسطين

أتذكّر في بيت جدي كان للمذياع هيبة لم تكسُ عصري، فكنت أستغرب كيف لذلك المذياع بتردُّداته وموجاته القدرة على ربط عقول العالم وتغذية الخلايا الفكرية والتحكم بأمزجة الشعوب وتوقيتهم، فرغم الاستفزاز الجليل عند ذبذبة قنواته فقد كان يتهيّأ لي بأن نطاق البثّ ينافس تركيز الإنسان كلّما تسللتْ أناملنا عبر محوّلاته، لا أعلم، لربما وصْلة الساعة لأمّ كلثوم أو الساعة الإخبارية عبْر ذلك المذياع كانت تفرض نعمة الألفة غريزيّاً حتى وإن لم تُعجب جميع أفراد الأسرة، فلتوقيت تلك المحطات حالة من حالات الترابط التي نتعطَّش إليها اليوم رغم تنوع وسائل البثّ الحديثة.

فنحن نعيش، أنا وأنت، على سطح الكرة الأرضية، ولكننا مع التطور نزداد تميّزاً كلما اختلفنا شكلاً ومضموناً وتحرَّرنا من التكوير الفكريّ، ولكنني لم أعلم يوماً أنّ في هذا الكون لغة لا تحتوي على حروف لتأتي بالمفردات، ولا تحتوي على سطور لترجمة الكلمات، هي اللغة الإعلامية أو «فصحى العصر» التي تجاوزت الحدود الإعرابية لتصنِّف نفسها بين اللغات باسم لغة الضمائر الغائبة، فلا تأتي رموزها إلا مستتِرة مهما كان موقعها.


والذي جعلني أقف عند تلك اللغة، هو أنها لا تحتاج إلى فهرس للتعريف، فهي جمعت باستيطانها السِّلمي اللقب ليألفها العقل ثم يشتِّتها البصر، فتقع شظاياها في القلب دون طمع. تمتاز بمحتوى مرن الأجزاء يستهدف الحدود الفكرية بذوق وخفّة ودهاء، تحارب التناقض فتزيده عنفواناً بسلام، تحمّص في استعراضها بُنَّ القهوة في الذاكرة البشرية، وتنافس المصداقية، كما تناشد بالترفُّع عن الرياء لتغمرك في عطاء وديع وتمهّد لمسار حياة يبدو شعاره النهضة والانتماء.


نتابع من خلالها مواقع التواصل الاجتماعيّ، ولا أستطيع الجزم من فينا يتابع الآخر أو يتتبَّعه، ولكننا عبْر تلك القنوات لا نشاهد فقط بل نحارب بأبصارنا ومبادئنا وقناعاتنا، ونتحدّى قوة الإدراك العقليّ وانعكاسه على أفكارنا وأفعالنا.

هو في الحقيقة حتى لو قدِّر لنا وخسرنا هذا الصراع النفسيّ عند إحدى العتبات فنحن لا نزال ظاهريّاً منتصرين مع الجماعة، وبنشوة القناعة هذه نصبح غير مكترثين لقياس آثار الانتصارِ الفردية، رغم أن الواقع يشير دوماً إلى أن الحرب التي لا تخلّف أيتاماً تولِّد ثأراً اجتماعياً وفكرياً.

الجدير بالذكر أن تلك اللغة الإعلامية لا تهدف فقط للتوعية وللتثقيف، بل من شدة نجاعتها هي أيضاً مسيَّسة لتوجيه الرأي العام، ومخاطبة ثغراتنا النفسية وبالتالي السيطرة، فعبر شباكها الذكية ستصطاد ما يجذب شقوق عقلك حتماً، فلنون النسوة مثلاً أجندة خاصة في كلّ ما يتعلق بمعايير الجمال والموضة والمجوهرات، وتُعرَض من خلال «صانعي المحتوى» أو «مدوّنات الأزياء» فتشعر المرأة بأنه قد فاتها الكثير من عمرها أمام تلك المعروضات والنصائح، التي يتهيأ لها أنها حازت على رضاها، أو كانت لفتة أنيقة كفيلة في إثارة حيرة ثقتها بنفسها.

أنا لست ضد مواكبة تطورات العصر، لكنني لا أعلم كيف أصبحنا «حضاريين» عندما نجد آلاف المتابعين يهنئون شاباً لنجاحه في مسابقة الجمال؟! غير أنّ البعض الآخر يستخدم تلك الصفحات ليسلط على مثالية الحياة من حيث الأسرة والأبناء والاستقرار، ليعتقد المرء أن عبْر ذلك النهج سيتحقق الاكتفاء، إلّا أن السعادة الواقعية بريئة من تلك المعايير، والمثالية لم تنسَب إلا لسريان هذا الكون، أما لسكانه فالنقص هو نعمة البارئ.