السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

الرقابة الذاتيّة.. والعبرة اليابانيَّة

الرقابة الذاتيّة.. والعبرة اليابانيَّة
ظلال عبدالله الجابري كاتبة - الإمارات

في اليابان تم الاستغناء عن المراقبين في الامتحانات، لأن التلاميذ لا يغشون سواء في وجود المراقب أو غيابه، وعندما حدث زلزال تسونامي وانقطعت الكهرباء في المحال أعاد اليابانيون في محال التسوق ما بأيديهم إلى الرفوف ومشوا بهدوء، ولم تحدث عمليات سلب أو نهب لأجهزة الصراف الآلي أو المصارف أو المنازل أو الأسواق، ولم تحدث حالات تعدٍّ أو اختطاف أو تحرش، على الرغم من الفوضى الحاصلة نتيجة الزلزال وغياب الحسيب والرقيب، وانشغال الجميع بمن فيهم رجال الأمن والشرطة والجيش بعمليات الإنقاذ والإغاثة.

لقد قدم الشعب الياباني في تلك الحادثة تأكيداً على أرض الواقع بعدم صحة ربط مستوى الانضباط الأخلاقي بظروف الموقف أو بعوامل خارجية، وبأن مشاعر الرقابة الذاتية للفرد قادرة على ضبط سلوكه وقيامه بالتصرف السليم بغض النظر عن ظروف الموقف وملابساته.


وذلك من أهم المبادئ التي سبق الإسلام التنظيمات الحديثة في مطالبة الأفراد بها، حيث تصبح رقابة الفرد الذاتية على نفسه هي الأساس، ليخرج السلوك الإنساني في التعامل مع الآخرين نافعاً طيِّباً خالياً من الأذى لهم، حتى في وجود دوافع قوية للقيام بالعكس.


والأحاديث والمواقف في ذلك كثيرة، أحدها قصة الفتاة التي سمعها الخليفة عمر بن الخطاب، ترفض رأي أمها بأن تخلط الحليب بالماء حتى تزداد كميته، ويزيد الربح من بيعه بكلمتها المشهورة: «إن كان عمر لا يرانا فإن الله يرانا»، في تذكير بواجب رقابة الإنسان الذاتيَّة على نفسه ليرضي ربه بفعل السلوك الصحيح، مهما كان حجم الإغراءات التي ليست عذراً بأيِّ حال من الأحوال شرعاً وديناً للقيام بالسلوك الخطأ.

وقد جاء في السيرة النبوية لـ«ابن هشام» قصة أم سلمة، أنها سافرت في الصحراء وحيده تبتغي زوجها بالمدينة، فقابلها عثمان بن طلحة فأبى أن يتركها حتى أوصلها معززة مكرمة، في دلالة أخلاقيَّة أخرى مهمة.

إن الوضع الذي يكون عليه الآخرون في أحوالهم وأنفسهم مهما كان زمانه أو مكانه أو طبيعته لا يجوز استخدامه كمبرر لتجاوز الخطوط الحمراء معهم، فأن يجد أحدهم باب منزل مفتوحاً على مصراعيه لا يعطيه هذا الحق أن يدخله، أو أن يجد أحدهم مبلغاً من المال مجهول الصاحب في مكان ما لا يعطيه ذلك الحق في أن يأخذه.

لقد كانوا في الماضي يعدون العفة والتعفف في مثل هذه المواقف مدعاة للفخر والمباهاة في زمن الجاهلية، حيث نجد فارساً كـ«عنترة بن شداد» يفتخر في شعره بعفاف نفسه وغضّ بصره عن جارته، فلا يرفع طرفه ولا ينظر باتجاهها حتى تدخل إلى بيتها، في صورة رائعة من ضبط النفس، وممارسة الرقابة الذاتية، عليها لتمارس الخلق الكريم الذي رأى فيه التشريف والتكريم والفخر لنفسه، فقال:

وأَغُضُّ طرفي ما بدَتْ لي جارَتي

حتى يُواري جارتي مأواها

ما يؤكد على أن أفضل الحلول لمواجهة كثير من الظواهر السلوكية المرفوضة، ولإيقاف حدوثها، وأحدها «التحرش» هو تلك الحلول النابعة من الذات، لأنه مهما كانت الروادع القانونية أو حجم الحماية المجتمعية، تظل إمكانية الالتفاف على كل تلك الموانع ممكنة لعدم انبعاث المانع من قرارة النفس.

والخلاصة، إن الرقابة الذاتية التي يمارسها الفرد على نفسه لضبط سلوكه، هي الشيء الوحيد الذي تستقيم به الحياة لأنها اختيار شخصي كما هو مشاهد في مثال سلوكيات الشعب الياباني، وفى ديننا هي الأساس الذي يقدر عليه الإنسان في الدنيا، ويكرم في الآخرة.