الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

الشِّعر واللغة.. ومآل الكلمات

الشِّعر واللغة.. ومآل الكلمات
د. معراج أحمد الندوي أستاذ بجامعة عالية كولكاتا - الهند

يولد الشعر من صميم الحياة وظروفها ومشكلاتها، وهو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن العواطف، كما أنه يعبر عن الحياة كما يحسُّها الإنسان من خلال وجدانه.. إنه نماء في القلب ينطق به اللسان.

والشعر على نحو آخر يهز القلوب مثلما يهز الفلاح الشجرة المثمرة، فتتساقط من القلب اللغة والكلمات والعواطف والخواطر العلوية كالثمار الناضجة.


ويعتبر الشعر فنّاً من الفنون الأدبية والفكرية، التي تؤدي وظيفة في الحياة هدفها التعبير عن حاجات العقل، ونقل العواطف والانفعالات الإنسانية.


والشاعر حين يقرض الشعر فإنه يصغي في نبضاته للحياة معنى وروحاً، وفي الغالب يرى ما لا تراه عيون الناس، فهو يهتز وينتفض ويغوص في بحر الحياة ويتلاشى في معانيها.

والشاعر ينظر إلى المجتمع البشري من خلال نافذة وجوده، ويرصد ما تدور فيه من روابط وصلات، وما تحكم عليه من أفكار، ثم ينفعل ويتأثر بما يمليه عليه المجتمع، فتجيش في خلده مشاعر وعواطف تعكسها قريحته بكل شفافية ويحيكها وجدانه المتدفق.

من ناحية أخرى، فإن الوظيفة الأولى للشعر هي التعبير عن الجوانب الوجدانية من نفس الإنسان، وأسمى درجات الشاعرية وأفعلها في النفوس، ذلك أن الشعر يبث الحياة والقوة والأمل والعمل، كما ينبذ اليأس والمخاوف والخنوع، ويجدد الأشواق، ويجذب الحنين، فتموج في النفوس آلاف الخواطر.

ومن جانب آخر، فإن اللغة كأداة غير متكافئة للتعبير عن العواطف، لأنها لم توضع لهذه الغاية، وإنما يقتصر عملها الوظيفي في التعبير عن العلوم والفنون، والشاعر عندما يبث عواطفه في قوالب التعبير اللغوي، فإن ذلك يكون بثّاً غير مباشر، لأن اللغة هنا تقوم بالترجمة عن العواطف، فهي تخاطب الوجدان، بينما اللغة العادية تخاطب العقل والمنطق.

اللغة تتحرك في دائرة واحدة، فليس في كلماتها وحروفها ما يبعث الروح ويثير الطموح، لكن الشاعر يستخدم العود والأشياء والأحاسيس أكثر مما يستخدم الأفكار المجردة، ويحاول إيجاد لغة أخرى في اللغة، لأن اللغة لا قيمة لها بالألفاظ، إلا ما تصف هذه الألفاظ من الصور الذهنية التي يتلقاها الشاعر من الخارج، وعلى هذا الأساس، يستخدم اللغة وسيلة لإيحاء المعنى الذي يختلج في نفس الشاعر، لأن الشعر عنده هو صورة فنية.

الشعر يحول اللغة من وسيلة عادية إلى قطع موسيقية متناغمة ويخزها بطاقة معنوية من العواطف التي تسرى في سريان الروح في الجسم، وبالتالي اللغة لا تصلح أن تكون وسيلة للتعبير الشعري، واللغة التي تسجل الأحاسيس وتنقل المشاعر تصبح شعراً، ولو كانت تخلو من الأوزان والبحور.

الشعر لغة داخل اللغة، ينفذ الشاعر من خلالها إلى المخفي في ثناياه فيبتدعها من جديد، ويحول الشعر اللغة من لغة العقل إلى لغة الوجدان، فالألفاظ ترسم صوراً وظلالاً في الخيال والعاطفة، ويستعصي على الشاعر الحرف وتعسر الكلمات، لأنها ولادة جديدة داخل الكلمات ينسجها الشاعر من رحيق الروح ويقين الحكمة.

كما أن الشعر يقوم على الحس الشخصي والتصوير النفسي الصادق، والشاعر يعبر من خلال الشعر عن شدة المعاناة وجَيَشان العواطف وصدق التجربة بشكل معنوي تلقائي كما تفوح الزهرة بعطرها، وكما يغني الطائر الغريد على أفنان الشجر.

الشعر طائر يقع على الشبكة فيقرض الحبال ويأخذ الحَب ويطير بسلام، وينشأ في حضانة الحب، فلا يملأ فراغ نفسه إلا العاطفة والوجدان، فالشعر بدون العاطفة والوجدان جبال جرداء ليس فيها زمزم ولا ماء، وأيضاً الشعر هو مثل الكائن الحي له جسم وروح.. المقاطع الموسيقية جسده والعاطفة الصادقة روحه، وإذا تجرد من الروح لم يبق شعراً مهما كان شكله موزوناً، فالشعر ليس شعراً فحسب، بل أرجوزة البشرية الخالدة، وترنيمة التمنيات وخلاصة السحر ومآل الكلمات.