السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

رمضان.. من يوميّات الطفولة

رمضان.. من يوميّات الطفولة
د. محمد شطاح مدير برنامج الاتصال والإعلام جامعة العين - أبوظبي

عمري حينها لم يتجاوز سن الخامسة، وبالكاد بدأت أدرك كُنْه الأشياء والموجودات، حينما لاحظت لفترة أن الحياة في بيتنا تغيرت رأساً على عقب، فلم تعد أمي تقوم باكراً كعادتها لتحضير فطور الصباح، ومباشرة يومها «الماراثوني» بإعداد وجبة الغذاء، وتنظيف ردهة البيت، وغسيل الملابس، كما لاحظت حينها أن الجميع في البيت يمضي يومه على الطوى ويظلّ كذلك حتى آذان المغرب.

وكأيّ طفل في تلك المرحلة كنت أفيض بالأسئلة عن كل شيء، وكان مصدري للمعرفة آنذاك أمي (رحمها الله).. يومها واجهتها بسيل عارم من الأسئلة، كان أولها:


- لماذا لا تُحضّرين فطوراً، ولا تعدّين غداءً؟


فكانت إجابتها:

- إنه شهر رمضان.

وسألتها ثانية:

- وماذا يعني شهر رمضان؟

ردت أمي قائلة:

- يعني الصوم من الفجر حتى المغرب عن الأكل والشرب وكل المفطرات.

ولم أتركها تلتقط أنفاسها حتى أضفت:

- هذا يعني أنني سأظل صائماً إلى أن يحين أذان المغرب؟

فردت:

- أنت لست معنيّاً بذلك.. أنت صبي، ورمضان للكبار فقط.

- ولماذا للكبار فقط؟.. سألتها.

- لأنهم يقدرون على تحمل مشقة الجوع والعطش؟.. أجابت.

وواصلْتُ أسألها في إصرار:

- متى يمكنني الصوم؟

أجابت على مضض:

- عندما تصل إلى سن البلوغ؟

أردفت:

- ومتى أصل إلى سن البلوغ؟

هنا سحبتني برفق ودفعتني باتجاه الباب بلطف وهي تردد:

« يِزِيد ونُسَمِّيه بوزيد» أي «لكل حادث حديث».

قبلت بعدها بالأمر الواقع واندمجت مع رفقتي في الحي للاحتفال بهذه الشّعيرة، نقلّد الكبار بالصلاة وبالصوم والإفطار، وبالتّسحر كلما سمحت الظروف بذلك، وكنّا نسهم في إعلام الصائمين بأذان المغرب.. نردد أناشيد نحيّي فيها الصائمين، ونغادر سريعاً بعد تناول وجبة الإفطار إلى خارج البيوت، ونجلس على الرصيف نترقب المارة من الصائمين المتوجهين نحو المسجد، ونتسابق إلى تهنئة كل واحد منهم بصيام اليوم بعبارة:

- «صحّ صيامك يا عمي».

ويرد هو في الحين:

- «الله يبارك فيكم يا أبنائي».

بعدها ننطلق نحو المسجد لنشارك الصائمين صلاة العشاء، وبعضاً من ركعات صلاة التراويح التي تنتهي أحياناً بالإبعاد إلى خارج المسجد، بسبب كثرة الحديث والحركة والصراخ، والمشي بين صفوف المصّلين الخاشعين.

ومن الأشياء التي لا أزال أذكرها من هذا الشهر الفضيل، التنافس مع الأقران بصوم أكثر عدد من الأيام تطوُّعاً.

أذكر أول يوم صُمْتُه في طفولتي.. كنت يومها في الصف الثالث ابتدائي عندما اتّخذت القرار، فأعددت العدّة إذ تناولت وجبة سحور دسمة وشربت ما يكفي لليوم الثاني من الماء، وصحوت باكراً صباح ذلك اليوم لأزفّ لأمِّي النّبأ العظيم.

مسحت بيدها على رأسي وقبّلتني وهي تردد:

- «أنت صغير يا كَبْدِي، فقد لا تقدر على الصوم حتى آذان المغرب».

فرددت بشيء من «المرجلة»:

- أنا سأصوم اليوم، يعني سأصوم.

وكذلك كانت الحال، لكني بدأت بعد منتصف النّهار أشعر بالجوع والعطش الذي تحول إلى وهن مع مرور الساعات.

في ذلك اليوم فقط عرفت أن عقارب الساعة المعلقة على الجدار تدور بشكل بطيء.. لم أدركه من قبل، وخُيِّلَ إلي أنني صمت الدّهر كله، ولكن كنت أسعد الناس عندما سمعت أمي وهي تُعلم أفراد الأسرة وجارتنا بالخبر:

- «ابني... صام اليوم».

أذكر أيضاً كيف كنت أنتظر قدوم العيد رفقة صحبتي، حيث نتهيأ له باقتناء أحلى الألبسة، ونضع قليلاً من الحنّاء، وعلى ثلاثة أصابع فقط تمييزاً لنا عن البنات، ويمتد بنا السهر إلى وقت متأخر من الليل فنغفو بعض الشيء، مرتدين ألبستنا الجديدة (أحياناً) في انتظار الصبح، إذ نقفز نحو المسجد، وننتظر بعد نهاية الصلاة «العيدية» من الأب والأقارب.

هكذا كان رمضان، وهكذا كانت طقوسنا نحن الصِّبْيَة في هذا الشهر الفضيل، ولم تكن يومها ثورة تكنولوجيات الاتصال قد أطلت برأسها، وإلا كان لرمضان شكل آخر وصور أخرى، مختلفة تماماً عمّا عشناه ورويناه.

رمضان.. من يوميَّات الطفولة