الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

«فتاة اسمها ناوومي».. عشق الأبله

«فتاة اسمها ناوومي».. عشق الأبله
أمان السيد كاتبة وشاعرة ـ سوريا

« إذا اعتقدتم أن روايتي سخيفة أرجوكم أن تضحكوا، وإذا اعتقدتم أنها تتضمَّن تجربة أخلاقية، فأرجو أن تكون درساً لكم، وبالنسبة لي، فإن رأيكم عني لن يغيَّر من الأمر شيئاً، فأنا أحب ناوومي...».

كلمات يختتم بها الكاتب الياباني «جونيتشيرو تانيزاكي» روايته « فتاة اسمها ناوومي» جاعلاً بطل روايته يستبق قرّاءه في دحض أي اتهام لسلوكه الذي يتواتر صعوداً، وتأججاً في محيط هو استمراء للهوان، وتلذّذ بعبودية وخضوع، مظلّتهما ادعاءات متناقضة واهية تعرض في صور، وأشكال، حيالها القارئ لا يتوانى عن نعته بالساذج، أو بصراحة أشدّ: بالحمار، في استجلاب طبيعي إلى الذاكرة الشعبية ما درج من أمثال تتناقلها العامة في توصيف الرجل الذي يخضع للغريزة تجاه امرأة بالحمار، أما شريكته فتتباهى بتعذيبه، والسخرية منه، وهو الراضي تماماً، بل والمستمتع تجاه نفسه، وأمام الآخرين بلا استثناء!


حالة تموضعت في الرواية بشكل بارز، وحادّ، بدأت بعشق تبدَّى نقيّاً، لينقلب في خواتيمه ملوثاً، ويمكن القول: إن الحالة تلك تلخص مضمون الرواية الانتكاسي، والإيحائي!


« تانيزاكي» أسهب في وصف «جوجي»، وهو يستجدي طلبه من «ناوومي» التي غدت زوجته، ولا يمتنع عن ذلك، رغم انكشاف قذارتها، واستغفالها له مع رجال مختلفين غربيين، وغير غربيين، فيجعل من مشهد الركوع بأربعته تحتها، وفمه محشوّا بقطعة من ملابسها مشكلة لجاماً، وسعادته البالغة رغم ما يفقده من الكبرياء، تخيلاً لسلوك مستهجن، حتى وإن كان اللجام يستحضر مخلوقاً أرقى في التصنيف الحيواني. لعل الروائي أراد التسامي بقيمة النفس الإنسانية، أو تحميلها مشاعر تكتري فضاءات شفيفة الأبعاد.

جاء السرد زاخراً بالإدهاش، عماده شخصيتان جعلتا المحور السابر لوضع اليابان المتحور في تلك الحقبة، فاختار فتاة في الرابعة عشرة تنتمي إلى بيئة غير مكترثة يعيث فيها التشتت الأسري خراباً، وشاباً ثلاثينياً قروياً موظفاً على درجة من الوعي أكبر مما يؤهّله لخوض تجربة التغيير المتأثر بالاختلاط بالأجنبي، وإستبرقه.

بطل الرواية مهندس» جوجي» يعيش الانقلاب والتحوّل من خلال وقوعه في غرام «ناوومي» التي تعمل نادلة في مقهى، تجذبه ملامحها «الغربية» - هنا نلمح الإشارة إلى ذلك الانشداه بالأقوى، وما يتبعه من خلل - وبما أن «جوجي» يستهويه النمط الغربي، فقد قرر أن يتبنّى الفتاة، وقد استشف فيها بذوراً يمكن أن تُروى لتتحول إلى المرأة التي يهوى، فيحظى بثنائية الأجنبي الجاذب، وأصالة المنبت، ولم يردعه المنبت السيئ، والفارق العمري والثقافي عن تعهدها بالرعاية، يدخل إليها من باب التّعلم الذي حرمته، الإنجليزية، والموسيقى، والرقص، من أولويات التشبه بالغريب، ويسخو في سبيل ذلك بالمال، رغم اكتشافه أنه ضحية استغلال وقح حتى النهاية!

الروائي الذي يمارس صنعة البوح بوعيه، واستشرافه التدمير القادم، كان المحرض له انتقاله الزلزال الذي أصاب مدينته «يوكوهاما»، والذي ألجأه إلى حي جاور فيه غربيين بتقاليدهم البعيدة تماما عن النمط الياباني، مما أسهم في إنتاج هذه الرؤية التي تحمل تصارع القيم في ذاته مع ما راح يتلمسه من الضلالة المترقبة، ولا تخفى الرسالة التي يحملها العمل الروائي، وإن كان قد شط المتخيل، بالوهن النفسي، بأمراض العصر التي يستشرفها الروائي أيضاً من ذلك التمازج المخيف في بداياته.

رواية «عشق الأبله» في مسمّاها الياباني، ذكية في اقتيادها القارئ المستسهل إلى قشرة سطحية، وحشرها قارئاً متيقظاً في دوامة عصر تتقلب به الأحداث، وانعكاسات ذلك على شعب يحمل عراقة التقاليد، وإذ بمؤشرات كثيرة تسير به إلى التلاشي.

ورغم تضاؤل حضور الشخصيات في الرواية إلا أنه كان مثرياً في الوقت نفسه في تأجج العمل الأدبي، والسير به إلى ذلك المستوى الكبير من النضج والتأثير، وتخلية القارئ منشدها إلى بطليها الرئيسين جوجي، وناوومي، واستشعاره أنه أمام شخصيتين تتنافس فيهما السادية، والمازوخية، لتبهت شعرة الانفصال بينهما.. إنها رواية تستغني بهما حقاً عن كل الحلبات التي تزخر بها.