الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

المصالحة العربية.. الألغام ودور النخبة

المصالحة العربية.. الألغام ودور النخبة
محمد سعدي كاتب ومحامٍ ـ الجزائر

استوقفتْني إشارات التقارب الإماراتي ـ العراقي الأخير، وهو ما شجَّعني على الإدلاء بدلوي فيما وقع ويقع داخل الجغرافيا العربية ككل مشرقاً ومغاربيّاً، منذ أن حاول محركو الربيع العربي المزعوم الإطاحة بمعظم الأنظمة العربية التقليدية، والتي تأسست من سنوات النضال العربي التحرري بكل أنواعه، ثم تطورت الأوضاع الانفجارية إلى إدخال الفتن بكل أنواعها داخل الجسم العربي الواحد، سواء بين أفراد الشعب الواحد أو بين الشعوب فيما بينها وبين الأنظمة.

ونتيجة لذلك وصل التضامن العربي التقليدي إلى أدنى مستوياته، وأصبح كل نظام يغرد خارج السرب العربي التقليدي، ولا همَّ له سوى إطفاء النيران الملتهبة داخلياً بسبب أو بدونه، مع بروز فتن الأقليات المزعومة عرقيّاً ومذهبيّاً داخل الجسم العربي، والتي هي في الحقيقة مفتعلة بدوافع ودعم خارجي تحت شعارات كاذبة وتضليلية.


لقد ظل جيل الآباء والأجداد محافظاً على شعرة معاوية وبكل سلبياتها وإيجابيَّاتها، ورغم قلَّة الإمكانات، فقد حقق الكثير للأمة ككل، وأنتج أجيالاً من المثقفين، معظمهم خريجو الجامعات الوطنية والعالمية.


تلك الأجيال استلمت الآن المشعل بطريقة أو بأخرى، وهي على المحك والتجربة، في وسط من الألغام والأشواك، وقد يكون البعض من ذلك من مخلفات التجارب الماضية، لكن ومهما كانت الأسباب والمسببات فالمطلوب اليوم من الشعوب، ومن نخبها الثقافية والسياسية، وحكامها، العمل على تفكيك الألغام وإزالة الأشواك، وهذا لن يتأتَّى إلا بواسطة مشروع أمة يكون ذا طابع عصري وحداثي، بعيداً كل البعد عن مفهوم الزعامات التقليدية.

كما يتمُّ ذلك أيضاً عن طريق فتح المجال واسعاً لحركة الأشخاص والأموال دون عوائق إدارية، والتركيز على فتح المجال واسعاً للعمالة العربية ـ العربية بجميع أنواعها كخطوة أولى، ولو عن طريق جمعيات وتنظيمات متخصصة في ذلك، وهذا في إطار استعادة التضامن العربي ضمن مشروع جامع بدون تعصب ولا مغالاة، ولا تعالي طرف على آخر، مع الابتعاد عن كل أنواع الأفكار والأطروحات الاستفزازية وتحت أيّ مبرر، وتجنب الاصطدام بالأنظمة الرسمية مهما كانت الأسباب والاستفسارات.

وحتى لا نذهب بعيداً في الآمال والأماني الميتافيزيقية، فإن المسؤولية من الأساس تقع على عاتق النخبة المثقفة، التي ابتعدت نهائيّاً، وأصبحت مجرد أبواق تردّد مآسي الواقع العربي بالبكاء على الأطلال مرة، وتقدم انتقادات لاذعة مستفزة مرة أخرى داخل دائرة مفرغة لا طائل منها، دون طرح لبدائل فكرية وفلسفية للخروج من الأرضيات المليئة بالألغام السياسية والأيديولوجية، المستوردة من خارج الجغرافيا العربية باسم الديمقراطية الجوفاء والصورية، والتي تعمل على إدخال الجميع في مفهوم الصراع والتطاحن في دائرة الكل ضد الكل، شعوباً وأنظمةً، ذلك لأن الأرضيّة العربية لم تتهيأ بعد لمفهوم اللعبة الديمقراطية، التي لها نواميسها وأخلاقها ومبادئها.

الخلاصة أن المشروع العربي التاريخي والتقليدي، الذي ظهر سنوات النهضة، والذي تصدّرته القومية (البعثيّة، وغير البعثية) والإخوانية، والسلفية، واليسارية، أصبح اليوم مستهلكاً، واجتراره بالطرق التقليدية لإعادة إنتاجه لم يعد يتماشى وتطلعات الأجيال، حكاماً ومحكومين، وبالتالي وجب إحداث نهضة فكرية جديدة ببدائل بمفهوم العصر.

وهذه الأفكار تعمل أوَّلاً وقبل كل شيء على نزع الألغام الفكرية والبشرية، التي انتشرت كالطحالب في كل الجغرافيا العربية، ولا تخدم المشروع العربي بل تعمل على تفتيته، وهذا لن يتأتَّى إلا بواسطة طبقة مثقفة نيرة وحيدة، يكون مرفقاً بهدنة بين الحكام وبين الشعوب من خلال طبقة مثقفة تتصدر المشهد الفكري لطرح البدائل الحضارية الجامعة المقبولة.

الحالة تلك، إن تحققت ـ ستؤدي حتماً بالأنظمة إلى مراجعة نفسها تلقائياً ودون توترات، والدخول في عملية المصالحة الشاملة فيما بينها، سواء داخل القطر الواحد أو بين الأقطار العربية الأخرى عموماً، في عمليات تشاركية هادئة وتضامنيّة، والدخول في مرحلة نزع الألغام والأشواك، والعودة إلى صناعة التاريخ من جديد بأدوات العصر، خاصة أن الجغرافيا العربية الآن تعتبر خارج التاريخ أحببنا أم كرهنا.