الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

الكلمة في أزمنة الأزمات.. وكَدْمَة الرُّوح

الكلمة في أزمنة الأزمات.. وكَدْمَة الرُّوح
مع أنها أتت على أخضر الحياة ويابسها، وعاثت في أقوات الناس فسَاداً، ووضعت كل عصيّها في أي عجلة تحركت أمامها، حتى ظنَّ أهل الأرض أنها لن تستثني بشراستها منهم أحداً، إلا إنها ورغم كل ذلك كانت الضارّة النافعة، المرآة التي فضحت وجوه المدّعين والطارئين على الأدب أو الثقافة أو الفنون، حينما انفرط عقد المنافع التي كانوا يجنونها من ادعائهم أو تقمصهم تلك الأدوار، وهم في الحقيقة بعيدون عنها، ولم يقتربوا أساساً من عتباتها.

إن للكلمة أوقات الأزمات، أهمية تضاهي أهمية الفعل، وتتفوق عليه أحياناً، ظهر ذلك جليّاً أثناء أزمة جائحة كورونا من خلال قيام من نذروا أقلامهم لخدمة الإنسانية بتسخير إمكانيّات الكلمة، وتشغيلها بكامل طاقاتها، في التصدي لموجة الوباء، وإيقاف الهلع الذي أصاب الناس، الأمر الذي أسهم في الحدّ من تمدده في الجسم البشري، وأجبره على التراجع والتقهقر، فالكلمة التي اختار البعض تجاهلها، أو ادخارها، أو كتمانها، هي للآخرين في هذا المفصل الدقيق من عمر التاريخ، مرهماً يُسكت الجروح، ويربط على قلوب كل من أنهكته تراكمات الجائحة.

هؤلاء الذين بخلوا بما عندهم، تخلوا عن أدوارهم العظيمة، واختاروا الانكفاء والانسحاب بحجج معروفة وواهية، مع أن منابرهم الاجتماعية كانت تأمل منهم الكثير، في كلِّ ما من شأنه طمأنة الناس، وتأهيل أرواحهم.


هؤلاء، دربوا أنفسهم بحرفية ومهارة على الهروب من أي مواجهة إذا ما تبين أنها خالية من الدسم، خلعوا أثواب الثقافة وتحولوا بليلة أو ضحاها، إلى تجار وطباخين ومواهب أخرى لم نكن نعلم بها إلا حينما ألقت بظلالها الجائحة، بل راحوا ينظّرون في مجالاتهم الجديدة وينتقدون أسلافهم، فقط من أجل تثبيت مهاراتهم على ملعب يعلمون أنه ليس بملعبهم، وأنه آنيٌّ ومؤقت، من أجل كسب شهرة بديلة عن الشهرة التي فقدوها أو افتقدوها، وكذلك لزيادة أعداد المتابعين على مواقع التواصل، لغايات يعرفها الجميع، ويدركون ما تنطوي عليه من مكاسب، مع أن حضورهم الإنساني من موقعهم الحقيقي ومنطقة اختصاصهم التي ما خلقوا إلا لها، ثم كبروا وشابوا فيها، كان سيجعلهم أكثر مصداقية أمام أنفسهم وأمام معارفهم ومتابعيهم وأمام المجتمع.


إن غزو البلهاء الذي أخبر عنه الفائز بجائزة نوبل للآداب أمبرتو أيكو، وتمددهم الواسع في مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبار أن هذه المواقع «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل»، كان لبعض المثقفين والأدباء والفنانين دور في وصول تلك الأصوات النشاز إلى الناس، حتى إنهم لعبوا أدواراً ما كانوا ليلعبوها حتى في أحلامهم، لما غاب أصحاب الكلمة، وتخندقوا بإراداتهم بعيداً عن كل منصة.

ومع قرب إعلان الانتصار على أي أزمة، كارثة، وباء، وتدخل فيها ضمنيّاً جائحة كورونا، سرعان ما يقفل تجار الأزمات دكاكينهم، ويبيعون معداتهم أو يتنازلون عنها لأصحابها الأصليين، ساعين بكل ذلك إلى تبييض صورهم وتحضير أنفسهم للعودة من جديد إلى منابر الكلمة.. المنابر ذاتها التي تخلوا عنها أيام بؤسها، مراهنين على طيبة المشتغلين في الأوساط الأدبية والثقافية والفنية، والذين يقبلون التوبة سريعاً دون قيد أو شرط، وقد يعيدونهم إلى حناجرهم الأولى، غير أن كدمة في الروح ستظل عالقة في وجدان من صمدوا في أزمان الأزمة، وسيتذكرون خذلان الطارئين، ما دامت الأيام والأنفاس، وكلما طفا على سطح أوساطنا التي نحب زبدٌ آخر.