الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

قيادات الجزائر.. وانتصار الشرعيّات

قيادات الجزائر.. وانتصار الشرعيّات
عشية استقلال الجزائر سنة 1962، وانتصار الشرعية التاريخية والشرعية الثورية معاً في رحلة كفاح ونضال مريرة وطويلة، انتهت الأمور بعدها بتمكن الشرعيّة التاريخية بقيادة الرئيس أحمد بن بله والثورية بقيادة العقيد هواري بومدين من اعتلاء سدّة السلطة الوطنية الوليدة.

وتحمل الرئيس بن بلّه رئاسة الدولة والسلطة التنفيذية ككل، وتكفل العقيد بومدين بالجيش وتكوينه تكويناً حصرياً احترافياً، اعتماداً على إطارات جيش التحرير الوطني، ورفضه الالتزام باتفاقيات إيفيان فيما يخص التعاون مع فرنسا في هذا المجال نهائياً، واعتمد على الكليات العسكرية لكل من مصر وسوريا، وأرسل عدة دفعات للتكوين، وهي الخطوة الأولى التي استهجنتها فرنسا في وقتها.

وقد كانت الفترة 1962-1965 مرحلة شبه توافقية بين الشرعية التاريخية والشرعية الثورية، ولكن الرئيس بن بله لم يتمكن من التحكم في تسيير المتناقضات التي خلفتها مرحلة الاستعمار، ومرحلة النضال والثورة وقتها، والتي كانت تقودها شخصيات تاريخية من كل المشارب والأيديولوجيات والتوجهات الفكرية، والتي لها باع طويل في النضال والكفاح من أمثال محمد بوضياف ومحمد خيضر ورابح بيطاط وكريم بلقاسم والشيخ البشير الإبراهيمي وغيرهم.


وبذلك دخلت البلاد في متاهات الصراعات السياسية، وتوصل بعض التاريخيين إلى التمرد المسلح بقيادة حسين آيت أحمد، الأمر الذي دفع بالرئيس بن بلة إلى استعمال كل الأساليب لإقصاء جميع التاريخيين من المجال السياسي والتسييري، ودفع الجميع للخروج للمعارضة، وأصبح الرئيس بن بله حبيس أفكاره الانفرادية ومعزولاً نهائياً عن الواقع الجزائري الذي كان متردياً في جميع المجالات.


وقد حاول الزعيم بن بله فكّ العزلة الداخلية بمحاولة البروز كشخصية تاريخية على الساحة الإعلامية عربياً وأفريقياً وآسيوياً، متجاهلاً الأوضاع في الداخل، وراح يعمل على عقد قمة (الأفرو ـ آسياوية) في الجزائر للهيمنة بواسطة هذه القمة على الداخل الجزائري واحتواء الجميع باسم الزعامة، وفي نفس الوقت بدأ في التخطيط العملي للاستغناء عن العقيد هواري بومدين باعتباره آخر شخصية من تيار الشرعيتين التاريخية والثورية، كما أن الإطاحة به تمكّن الرئيس بن بله من السيطرة على القوة المنظمة الوحيدة وهي الجيش الوطني الشعبي، وقد وصلت المعلومات للعقيد بومدين وهو في زيارة رسمية إلى مصر، فقطع الزيارة وعاد إلى الجزائر، وبدأ التحضير لحماية نفسه، وهو رد فعل طبيعي وبشري.

وهكذا كان بيت الوزير الطيبي العربي هو مقر الاجتماعات السرية، التي تمت بين بومدين وأهم قادة من قادة الجيش وتم الاتفاق يوم 19 يونيو 1965 على الاستغناء عن الرئيس بن بله ووضعه في الإقامة الجبرية.

وتمت العملية بكل احترافية وهدوء، ولم يجد الرئيس بن بله أي سند له لا شعبياً ولا سياسياً ولا عسكرياً وطوي الملف خلال 24 ساعة وكأن شيء لم يكن، باستثناء رفض أربعة أو خمسة أشخاص من اليسار تحت اسم حماية الثورة، وقد تغاضى بومدين عن تحركات هذه المجموعة بعد توقيفهم إدارياً لمدة خمسة أيام تحفظياً ثم أطلق سراحهم.

وقد حدث كل هذا في سرية تامَّة، ومن طرف مجموعة قليلة، وكان قاصدي مرباح ـ مدير المخابرات وقتها - آخر من تم إخطاره بالعملية، وذلك في يونيو 1965 وهذا دليل قاطع على أن بومدين كان يحسن اختيار الزمان والمكان والرجال في الوقت المناسب، وأنه تحمل المسؤولية كاملة دون مجاملات ولا ترضيات خاصة، لأن الأمر تعلق بمصير الدولة، وهو المنهج الذي انتهجه المرحوم قائد صالح، رحمه الله، سنة 2019 لاحقاً في إطار مبدأ «دولة لا تزول بزوال الرجال والحكومات».