الثلاثاء - 23 أبريل 2024
الثلاثاء - 23 أبريل 2024

الرّاحلون أحبّتي.. بعين القلب أراهم

الرّاحلون أحبّتي.. بعين القلب أراهم
قاتلة الوحدة بحروب لا تهدأ، ترهقني فيها متاهات القدر عندما لا ندرك ما جاءت به، فتسجننا انكسارات الألم بشعور يمتلئ بالمرارة، فهي مرهقة، متعبة، مخيفة، تثير ضجيجاً يعمّ بروحي فتبدو كأنها ساحة ألغام، إذْ ما أصعب رفقة الليل عندما نحنّ إلى وجوه لا نملك رؤيتها، ففي القلب عين لا تنام ولا تزال تراهم.

مسحة الحزن في عيني لا تفارق ملامحِي، ولا أحد يشعر بمدى الوجع الذي في صدري.. صور حزينة في حياتي تهز كياني، وكلما داعبني الاستقرار لتهدأ روحي نهشت الوحدة بداخلي كل دفء فتعيدني غريبة شريدة كما كنت، كلما أمعنت النظر في تفاصيل ما حدث.

في سكون الليل بداخلي بوح لا يستوعبه أحد غيري.. آلام موجعة طالت القلب والروح، ولكن ما أجمل طيف من نحب عندما يداعبنا ويوصينا على أنفسنا وكأن غيابه لم يكن، فهو البلسم الذي يرطب القلب رغم أني أعيش بأحزان لا تنتهي أُغلفها بابتسامة سعيدة لكن بملامح لا نستطيع إخفاءها.


أحبتي.. حضورهم لم يكن عادياً في حياتي، وغيابهم أصاب الروح بانكسارات وخيبات متكررة وأفكار متعبة، لقد أصبحت في صراع بين إنكار ما حدث وبين تصديقه. فاجعة موت أبي وأمي وأخي في حادث سيارة أصابتني بالذهول وهستيريا وعدم القدرة على التفكير بشكل سليم، وكاد الخوف والاستسلام والضياع يلتهم بقية حياتي، ولولا صديق أبي لكانت الأحزان نصبت خيامها فوق صدري، ولظلَّت الروح مليئة بالخوف والمرض.


أدركت أن هناك لطفاً خفيّاً من الله يحركنا نحو الصواب في الأزمات، فأحياناً النفس تحتاج إلى روح ترد فيها ما فقدته.. ترسي داخلها مبادئ الاستقرار والقوة والقيم الربانية العميقة، ذلك أن هناك أشياء من الصّعب جدّاً أن تنسى، فهي تفرض نفسها فرضاً وإن أحكمت عليها وأغلقت عليها في إحدى غرف القلب.

في بلدي حلَّ فصل المطر، فرح به الناس كعائد من السفر، غير أنه زلزل عندي أركان الثبات، وانكسر قلبي رغم أنه لا عظمة فيه، تذكرت أمّاً وأباً وأخاً كانوا يخافون عليَّ من هبات النسيم! فكيف من زمهرير الشتاء؟ فكادت دموعي تعادل بسعتها سعة الماء المنهمر من السماء! لا أبكيهم اعتراضاً، بل شوقاً وفقداناً، فالذكريات تأتي حسب ما نشعر به، وأحياناً تكون محملة بما فات وانتهى.. الخريف ينثر أوراقه فندع كل ما يؤلمنا يتساقط من داخلنا، لنفسح المجال لربيع مقبل ــ بعد شتاء فاصل ــ ونحاول أن ننسى لأن النسيان نعمة.

في يوم لا أريد أن أسميه، وشهر لا أرغب بأن أذكره، وساعة من أتعس ساعات عمري فقدت أغلى الناس! في حادثة سير مروعة.. فقدت أبي الذي كان سندي وعضدي.. فقدت أمي التي كانت صديقة عمري وأخت روحي.. فقدت أخي الكبير الذي كان أبي الثاني وحارسي وراعي حاجاتي.. فقدتهم في يوم واحد.

ثلاث مصائب يا الله! من أين لي بالصبر؟ وكيف أحيا؟ كأن الحياة انتهت صلاحيتها بالنسبة لي، وكأن لها ذاكرة تأبى نسيان قسوة الأيام، فالحياة ترهقنا ألماً ووجعاً لكن علينا أن نقول: اللهم صبراً على ما لم نحط به خبراً.

فقدت النطق والمشي لأيام معدودات، وفقدت الإحساس بنفسي وبمن حولي، ولم أتعاف إلا بمساعدة طبية جادة، لازمت الفراش في غرفة مظلمة لا أريد بها نوراً، كدت أخرج عن إيماني لولا صديق لأبي لازمني بتلاوة القرآن والنصح والتوجيه.

ثم عدت إلى واقع الحياة وإلى التوازن بشكل أكبر، وبنظرة مغايرة وجديدة، وأيقنت ألا شيء يمر في حياة الإنسان عبثاً، بل لنفهم ولندرك حقيقة ما، ولنخرج بابتسامة الرضا من قلب الحزن.