الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

«الحزن يميل للممازحة».. حرفيَّة الرمز والإسقاط

«الحزن يميل للممازحة».. حرفيَّة الرمز والإسقاط
«إن القلب موضع كل إحساس، من الحب، إلى الغيرة، إلى الحقد، إلى الرغبة الجارفة التي تؤدي إلى الهلاك».

من هذا التعريف الذي وصف به الكاتب الرَّاحل محمد مستجاب، القلب ضمن سلسلة مقالاته التي جُمعت تحت عنوان «نبش الغراب»، نبدأ رحلتنا مع قصته القصيرة «الحزن يميل للممازحة».

لقد اعتمد الكاتب على أسلوب الرمز والإسقاطات في مجموعته القصصية، التي تجلَّت واضحة في القصة الرئيسية، إن استطعنا أن نطلق عليها هذا الاسم باعتبارها عنوان المجموعة، حيث تجلت حرفيَّة الكاتب في الرمز والإسقاط حين تحدث البطل عن أمه التي تحررت من كل القيم والأخلاقيات وصارت مصدر العار لكل أبنائها، وأصبح البطل يتلقى رسائل اللوم على أفعالها وتكليفه بمهمة إنهاء هذه الكارثة دون إخوته.


وبينما يقبع البطل تحت ركام هذه الرسائل تصله الرسالة الحاسمة، والتي تنهي كل هذا الجدل، فتعلنه وفاة والدته.


ويذهب الابن لحضور مراسم الدفن وتلقي العزاء، والبحث عن هذا الوغد الذي أغواها للانتقام منه، ولكنه يقابل سلسلة من المفاجآت هناك في مسقط رأسه.

لقد كان لحياة الكاتب بالغ الأثر في اختيار مفرداته وتعبيراته، فقد ولد الكاتب الراحل في عام 1938 في صعيد مصر (أسيوط)، وهذا ما جعله يشهد أحداثاً مهمة وجسيمة في تاريخ مصر والوطن العربي، بداية من حرب فلسطين عام 1948، والعدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، ثم هزيمة 1967، وحتى انتصار أكتوبر 1973.

ناهيك عن بقية الأحداث في الأمة العربية، منها الاعتداءات على فلسطين ولبنان، وغزو العراق للكويت والكثير من الصراعات الدموية.

ها هو يستهل قصته منادياً الحزن: «يا أيها الحزن البدين تحية».

ثم يردف متسائلًا: «بدين»؟

كأنه لم يكتفِ بأن يكون الحزن رفيقه القريب الذي يناديه، بل أكسبه صفة البدانة التي تلقي بظلالها الثقيلة على قلبه، وهذا يؤكد اختياره لهذا اللفظ للدلالة على عمق الحزن وأثره في النفس.

ثم يوضح الكاتب تسلسل المآسي التي ألمت بالوطن وبه أيضاً، فيقول:

ــ «ماذا لو دهمتني الملعونة التي يطاردني جسدها البدين، حاربت وانهزمت، ثم حاربت وحوصرت، ثم حاربت وانتصرت.. بعدها أصبح الجسد البدين حلماً ضاغطاً»،

ثم يصف فترة نهاية السبعينيات وما تلاها من هروب الأقلام الحرة من مصر بعد ضغوط سياسة الانفتاح التي زلزلت الكيان الثقافي والوجدان المجتمعي، وتخلخلت طبقاته فصار الأدنى في القمة، وانهارت القمم فآثرت الابتعاد عن المشهد والهروب من هذا الدمار للحفاظ على كينونة إبداعها، وحمايته من الاختلاط بما يشوبه، فيقول الكاتب:

ــ «كارثة الكوارث أن تستحضر بدناً لأنثى لا تدري بك، وأكبر من كارثة الكوارث هروب النجوم تحت مطاردة الجراد».

ثم يسرد الكاتب ما أصاب مثقفي هذه الفترة وحركتهم غير الممنهجة، فاختار كل منهم طوق نجاته من هذا الطوفان بطريقته، فيقول:

ــ «كل الأصدقاء المتناثرين في العاصمة هربوا من مجال رغبتي في اللجوء إليهم».

ويضيف قائلاً:

ــ «الإخوة موزعون على جسد الوطن البدين، قادرون على الفعل والبراءة من الفعل».

وتتوالى الأحداث ويأخذنا السرد إلى مسرح القصة، حيث يعدد الكاتب فئات المجتمع حينما يصف البطل إخوته.. ولكن ماذا بعد؟

لم ييأس البطل وقرر معرفة ذلك الشخص الذي أغوى والدته لينتقم منه، ليتفاجأ بأنهم كُثُر! ذلك أن خيانات الوطن لا تُعدُّ ولا تُحصى.

إن خيانة الأم لأبنائها وعدم اكتراثها بهم لأمر جلل، وما يفوقه أن تكون هذه الخيانة متكررة لا يشوبها أي إحساس بالندم.. قد يغفر الوطن لأبنائه خطاياهم، ولكن ما لا يُغتفر هو خيانة الوطن لأبنائه.