الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

رسائل من نافذة القطار

رسائل من نافذة القطار

لم يكن لديَّ الوقت لأن أفتح نوافذ عربة القطار من شدة الازدحام حولي، لذلك لم أتمكَّن حتى من توديعك بتلويح يدي من النافذة، ولكن كان كل جزء مني يودعك حتى تلك العبارات التي علقت فوق صدر كتاباتي، كانت الآن، وفي هذه اللحظة تتحرر من أسطري، وتتطاير في الهواء كطائر حرٍّ.

في هذه اللحظة ملايين الكلمات تهطل في داخلي كالسيل، حتى إنني الآن أستطيع أن أكتب بعينيَّ تفاصيل صغيرة كتلك الورقة التي سقطت من جيب أحدهم دون أن يشعرك بانكماش وجهك الذي تحاول عبثاً أن تخفيه بقبعتك.

هل يصلك هذا الهدير الكتابي الذي يعلو مع صفير القطار؟ وهل يمكنك أن تتخيَّل تلك الكلمات التي خرجت في لحظة كأبيات شعر كتبت على عجل، وهي تلتصق بجدار نفس مرتجفة؟ تُرَى بماذا يشعرك النداء الأخير وعجلات عربات القطار تخطو بمهل؟ هل يشعرك -مثلا- كأن روحاً تدنو من أبواب الجسد؟.. تلك اللحظة تعد بمقاس حياة.

كان عليَّ أن أجلس بعدها على ذاك المقعد وسط هذا الجفاف الحرفي، ووسط هذه الحشود التي أخذت مكانها كأحرف صفت على مشعل الورق.

أأُخْبِرك عن مقطورتي التي أنا عليها، وعن السيدة ذات الوشاح الفضي التي تجلس بجانبي وكأنها تجلس في محراب معبد لا مقعد؟ أأُخْبرك عن وجبة طعام قُدَمت كأنها رغيف خبز ساخن تفوح منه رائحة أمٍّ ووطن، لم تقوَ أصابعي الملبدة بالبرد على لمسه.

لم نصل بعد إلى حدود (فينا)، فالطريق طويل والغروب كمصابيح تضيء سنابل حقول القمح لوناً ذهبيّاً لامعاً.. أحاول أن أحتسي أبجديَّة اللغة في هذا الصمت إلا من صوت عجلات القطار، فمنذ انطلاقة القطار لم أكفُّ عن الكتابة، وكأنَّ الأحرف تتدافع عند بوابة قلمي، وأحاول فقط أن ألتقط مفردة حرف سقط سهواً.