الخميس - 18 أبريل 2024
الخميس - 18 أبريل 2024

خصلة شقراء.. بين لحن وقيثارة

خصلة شقراء.. بين لحن وقيثارة
صبحة الراشدي كاتبة ـ الإمارات

في إحدى الليالي الشتوية بين أضلع ذلك المسرح المهجور عزفت لها عزفاً، وأنا على حافة تلك السلالم المؤدية إلى نهاية خشبته، والذي طالما كانت له ذكرى خالدة في نفوسنا بأنين لا نهاية له.

ها أنا اليوم أعود إليها ولها وعليها أجوب كل الأقطار، وأعود لها منكباً على وجْهي.. في تلك الليلة أحببت أن استعيد ذكرياتي، تقدمت وأنا أحتضن القيثارة، ولا أخفيكم سراً بأنها ملهمتي، فمن عينيها كنت أستقطب كل ألحاني.


الآلة لها قصة أخرى.. كان لها الأثر الكبير في نفوسنا، تفرحنا تارة وتحزننا تارة أخرى، وقبل أن أسدل الستار عن ذلك اللحن المجهول سأعرفكم على صغيرتي ورفيقة دربي «القيثارة»، هي آلة طرب جميلة، يقول البعض بأنها دخلت شبه الجزيرة عبر شمال أفريقيا، وهناك من يؤكد أن الغيتار الإسباني ينحدر أصلاً من الـ«قيثارة»، كان استخدامها شائعاً لدى شعوب الشرق الأوسط القديم، وتم نقلها إلى أوروبا على يد اليونانيين، ووضعوا لها اسماً لاتينياً هو «سيتارة».. تكثر الأقاويل والنتيجة مزيج من الخيال


أخذت نفساً وأنا أردد: سأعزف لها ذات اللحن، لعلها تستعيد تلك الأيام.. وما استعدت أنفاسي.. رميت ببصري إلي عينيها فلم يند لي رمش.. اختلط عليها الأمر، تداخلت الألحان ببعضها، لم أدرك بأن عينيها ما زالت ترهبني وتسكرني!

يا للعجب! سمعت عن سكر العيون ولم أر مثله معها، قرأت لكثير من الشعراء.. الشاعر السوري نزار القباني تغنّى دائماً بجمال الأنثى وجمال عينيها، وكنت أشعر بشيء من المبالغة في قصائده.. أجد نفسي أردد قصيدة «نهر الأحزان» والتي يقول فيها:

عيناك كنهرَي أحـزان نهري موسيقا..

حملاني لوراء، وراء الأزمـان نهري

موسيقا قد ضاعا سيّدتي.. ثمّ أضاعـاني

تقدمت خطوتين عبر تلك السلالم، ولم أجد إلا نفسي والقيثارة في يدي ترتعد وكأنما تصبب الماء من فوقي، جلست في العتبة الأخيرة في نهاية تلك المرقاة المقابلة لها وأنا أحاول استعادة

ألحاني التي سرقت مني على خشبة ذلك المسرح، لم أستطع استردادها. تلاشت من مخيلتي وكأنها مسحت بتلك الممحاة لم أستطع سوى أن أستمع إليها تسرد عيوننا قصة عشق صامت.

رمقتني بنظرة بعد أن ضرب الإناء وسال من طرف عينيها، لم يسكن المدرجات سوانا، أخذت أنفاسي ترتعد وألحاني في ضياع وتخلٍ، وكأنها تسافر من بين دواخلي سهم وجهي بعد ضياعي، ولم تعد لي طاقة تلاشت قواي مع ذلك الصراع، ولم يعد لألحاني وجود في تلك الأثناء.

وبين ذلك الضياع تقدمت بخطوات ثابتة، وعيناها تعاتبني ومن بين يدي أخذت القيثارة، وجلست بجانبي، وبذلك الوجه المبْهم الغامض، وذلك الشعور الذي لا يمكنك إدراكه وضعت قطعة بلاستيكية صغيرة في يدي، عزفت لي عزفاً وكأنها تذكرني بذلك اللحن، اختفت الإضاءة من ذلك المسرح ولم يبقَ إلا نور عينها مع العزف غير المستبين، ولم تستطع ذاكرتي استعادته وكأننا في زمن ضائع، وما نبحث عنه قد أتلفه الدهر.. انْساب من بين أيدينا كجريان الماء في ذلك الوادي.. حلقة الحوض امتلأت كحياتنا هي الأخرى بألحان غريبة وإيقاع غير متزن، كما اعتادت عليه حياتنا، لحن غير محدد في نظام الموسيقي غير واضح، ولكن اعتادت آذاننا ونفوسنا على ذلك الإيقاع وإن كان يثير الاشمئزاز، ألحان غريبة غزت قلوبنا قبل عقولنا، حتى بتنا متيمين بها إلى أن تلاشى ذلك الطرب الجميل، وانعدم معه تدفق الأوكسجين إلى ذلك القلب اليتيم.

اختفت من فوق ذلك المسرح المهجور، غادرت المكان ولم يبق في يدي سوى خصلة من شقراء بين لحن وقيثارة!

شاركوا بمقالاتكم المتميزة عبر: [email protected]