الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

من مرافئ الذاكرة.. مشروع التخرج

من مرافئ الذاكرة.. مشروع التخرج
د. محمد شطاح مدير برنامج الاتصال والإعلام بجامعة العين – أبوظبي

من الأمور التي تتكرر معي سنوياً خلال ممارسة وظيفتي الأكاديمية، وعند اختيار بعض الطلبة لمشاريع التخرج، سواء كانت بحوثاً أو مشاريع عملية، هي ظاهرة اقتراح موضوعات وعناوين فضفاضة، موضوعات مثل الخيول البرية، يصعب الإمساك بها أو ترويضها، بل قل هي موضوعات بأجنحة محلّقة في فضاءات مفتوحة، إنها موضوعات تشترك في سمة واحدة هي «استحالة الإنجاز». تأتي هذه المقترحات في الغالب من الطلبة المتفوقين، لكنهم لم يمتلكوا بعد ثقافة البحث العلمي وأدواته.

كلما صادفتني هذه العناوين وشرعت في تصويبها، تذكرت فصل تسجيلي لمشروع التخرج، ونطلق عليه في الجامعة الجزائرية « المذكرة»، فقد اقترحت موضوعاً جريئاً كبيراً، وكنت أعتقد حينها أنني فارس في ميادين المعرفة، وأنني بلغت من العلم مكانة رفيعة وآن الأوان لكي أكشف عن تفوقي و« إبداعاتي». استدعاني المشرف، وكان دكتوراً من العراق، وأول ما دخلت إلى مكتبه، وقبل أن أهم بالجلوس أمطرني بوابل من الأسئلة: ما هذا الموضوع؟ ما هذا العنوان؟ من أنت؟ أسئلة عجزت عن الإجابة عليها لحظتها وظللت واقفاً، صامتاً، وجلاً، أتساءل مع نفسي: ماذا فعلت؟ ولماذا أواجه بمثل موقف كهذا؟ وبمثل هذه الأسئلة «الكبيرة»؟ وأنا «المتفوق» إذ كنت أردد مع نفسي أحياناً بيتاً للمعرّي، أعتقد أنه من أجمل ما قيل في الفخر وتعظيم الذات:


وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم........ بإخفاء شمس ضوؤها متكامل


وأضيف إليه صدراً من بيت لابن حزم الأندلسي: أنا الشمس في جو العلوم منيرة....

كل هذا جرى في ثوانٍ، حيث كان المشرف يقلب بعض الأوراق وينتظر مني رداً ليقرر على ضوئه ما سيقول. بعد لحظات عاد المشرف إلى هدوئه وحدثني قائلاً: اجلس يا بني، كانت كلماته برداً وسلاماً على قلبي، وردت إليّ روحي، ثم واصل: أعلم أنك طالب مجتهد ومن الأوائل والمتفوقين في الدفعة، لكن لا أريد أن يذهب بك غرورك إلى عدم بلوغ المقصد وتحقيق الهدف. ثم أضاف: ابني، الموضوع الذي اقترحته لمذكرة التخرج لو يعرض على أي جامعة، أو أي مركز بحث فلن ينجز إلا بعد شهور، وبجيش من الباحثين والمساعدين.

استرسل الدكتور في تقديم نصائحه وتوجيهاته العلمية بالقول: الموضوع المقترح يحمل بذاته موضوعين، أنجز الجزء الأول بعد حصره في جزئيّة معينة، وفي فترة محددة، وفي مكان محدد، أما الجزء الثاني فيصلح أن يكون موضوعاً وعنواناً لمشروع آخر، مع الأخذ بنفس التوجيهات، وهذا ما حصل بعد أن تعذّر على أحد الزملاء إيجاد موضوع لمذكرته.

اليوم وبعد مرور سنوات عن الحادثة، أتصفح أرشيفي وبحوثي ورسائلي بين فترة وأخرى، وعندما أصل إلى مذكرة التخرج أتفحصها وأتذكر الواقعة كأنها بنت البارحة، يتملكني الضحك أحياناً، فأتذكر أستاذي المشرف وأتذكر زمن «الصرامة العلمية»، فأدعو له كثيراً. لم يكن ما بدر منه سوى لتقويم اعوجاج، أو كبح جموح طالب تملّكه بعض من الغرور، وهي من الأمور التي نوصي به طلبتنا عادة، وندعوهم إلى التجرد منها عند مباشرة إنجاز «مشروع التخرج» أو «المذكرة» كما دأبنا على تسميتها في بلدان المغرب العربي.

ومن النصائح التي يجب الحرص على توجيهها لطلبة المشاريع كأفراد أو كمجموعات، هو التفكير قبل الشروع في تحديد أي موضوع للمشروع في «إمكانية الإنجاز» التي تشمل امتلاك الطالب للجهد والوقت والأدوات التي تمكنه من إتمام العمل على أحسن وجه، إلى جانب معايشة مشروعه أو بحثه طوال مدة الإنجاز، فيولد المشروع في ظروف طبيعية، فيبدو مكتملاً في الشكل والمضمون، مع إمكانية أن ينمو لاحقاً فيتحول إلى رسالة ماجستير -ولم لا- إلى موضوع للدكتوراه، وهي خاتمة مسارات التعليم الأكاديمي؟

أخيراً وجب التذكير بأن كلمة «بكالوريوس» من اللاتينية، ومصدر الكلمة الحالية من الفرنسية القديمة ويقصد بها «الشخص الساعي للحصول على درجة الفروسية». أما كلمة «الليسانس» فتعني شهادة، وفي بعض البلدان العربية يطلق عليها «الإجازة»، وعليه يعتبر الخريجون فرساناً في كل دفعة.

شاركوا بمقالاتكم المتميزة عبر: [email protected]