الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

مع أنه خارج القائمة

مع أنه خارج القائمة
بقلم: د. فضيلة ملهاق روائية وشاعرة ــــ الجزائر

تحركت جداول الأحلام في جوف رماد الذكرى، وتدفّقت في مصبّات حارقة، تُقوّي حنينه إلى زمن مضى، تغيرت منحوتاته، لم يعد ذلك الشّاب الذي يُعاند المنطق، ويخدش جراحه ليبدو قوياً، ويُناكد الخطر وهو يلهو به لهو الغيلان بطريدة تائهة.

وقف للحظات أمام المرآة، يُعاين الملامح التي سيعود بها بعد سنوات من الغياب، بدت له متشابكة وتائهة، أزاح بصره بارتباك، لم يكن مستعداً في تلك اللحظة بالذات لمواجهة التجاعيد التي تستبد بوجهه، والفراغات التي تملأ شعره، لأنها تُذكّره بأوقات لا يريدها أن ترسخ بذهنه.


رنّ الجرس فهرع إلى الباب يستقبل أول الوافدين لتوديعه، عانق جبرائيل بحرارة، وعبر له عن فرحة يُخالطها القُنوط:


- من كان يتصور أن أعود!

- تريّث يا عيسى، لست مضطراً، قال له جبرائيل ناصحاً.

- بلى، بلى، أنا مضطر، لم يبق سوى أن يفصلوا الجلد عن الجسد!.. لم أعد أشعر بالأمان، أحس بأن انفجار المقهى المجاور سيُفجّر اعتبارات كثيرة، اختفت في الحي تلك النظرات المألوفة المليئة بالمودة والرغبة في التعايش، وحلّت مكانها اتهامات، وشكوك ممطوطة.

- أوجد غيلان البشرية آلة جهنمية يُصفّون بها حساباتهم مع الغير، أصبحوا يوزعون براءة اختراع الإرهاب على من يريدون، ويشكلون بها الإنسانية في مجسمات نمطية تخدم أمزجتهم، ولو تطلب الأمر سحق الإنسان، وعجنه، وتقطيعه، وطهيه في أفران والحروب.

تأوّه عيسى وتمتم بوجعه:

-أخرج لنا صندوق الاقتراع هذه المرة دراكولا، أصبح ذلك الرجل العدواني، المتطرف، رئيس بلديتنا!

نظر إليه جبرائيل نظرة هادئة، عميقة، وقال:

- تريّث، مثلما الإنسان يُسقط الإنسان، الإنسان يرفع الإنسان، ستعود الأمور إلى ما كانت عليه.

-ربما.. قال بارتباك.

توالى رنين الجرس، وصل مع باقي الرفاق، مزيد من الانشغالات..

- ليس الوضع هناك بأفضل مما هو عليه هنا.. قال أحدهم ناصحاً.

ساد صمت وَجِل، كثرت حركة الملاعق، وعلا صوت الارْتِشافات، وتغلّب الحديث الدائر بين إبريق الشاي والكؤوس على صوت زفراتهم المتصاعدة، المُثملة بالشعور بانفلات الأمان، شرد عيسى عن حديثهم، وجال بنظراته في الغرفة يستل الذكريات ثم قال في نفسه: «يشعر الإنسان بالغربة وهو يفارق مكاناً يحبه، ويشعر بالغربة وهو يعود إليه من مكان أحبّه، يُمضي حياته من غربة لغربة».

التصق بالنافذة بعد ذهابهم، تراءت له حياة مخترعين كبار، عرفوا المجد بعد أيام حالكة، واستحضر لحظات شقائه وتعبه، طوال السنين، ثم انطلق إلى المطار، ومجرد أن دخل قاعة الانتظار، انطلقت صفارة الإنذار، ووجد نفسه محاطاً برجال مدجّجين بالسلاح، وعبوات الغاز المسيل للدموع، والدروع.. وانقلبت النظرات حوله سهاماً، وابتعدت عنه الأجساد مرتعبة، وتقاذفته مقاليع الأفواه بالشتائم، والاتهامات، والتأويلات.. نظر بحسرة إلى أمتعته التي تناثرت في القاعة، وصرخ متوسّلاً:

- أرجوكم، لا تعبثوا بها.. إنها حصيلة عمر بحاله، مشاريع اختراعاتي.

- فيما تحتاجها وأنت تغادر؟.. سأله أحدهم باستخفاف.

- أريد أن أسجل براءة الاختراع.

-يتوقّع أن يأبه حاكم مدينته لخزعبلاته! خيراً فعلنا إذ وفّرنا عليه المشوار!.. قال لرفاقه بنبرة استهزاء، ثم عاد يوجه له الكلام:

- حدّثنا عن علاقتك بالإرهابيين، ومساعدتك لهم بأسلحة الدمار.

-انظر إلى الوثائق، إنها آلات لتطوير الزراعة! دافع عن نفسه.

لم يلتفت لتبريراته، قطّب جبينه، وأمر رجاله بنبرة حادة:

- خُذوه، وشددوا الحراسة حول الزنزانة! إنه إرهابي خطر!

نظر إليه معاونه باستغراب، وهمس له:

- لا يوجد اسمه ضمن قائمة المطلوبين!

كزّ فكّيه وقال له، منبّها:

- غبي! لكنه لا يوجد ضمن قائمة مخترعينا.