الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

رؤية في الظلام

رؤية في الظلام
بقلم: د. فضيلة ملهاق روائية وشاعرة - الجزائر

وقع في نفسه سكون الشارع وقعاً مختلفاً، جذبه إلى عوالم بعيدة.. اتَّكأ على سور الشرفة وبسط ذراعيه باسترخاء، ومجّ السيجارة بنهم من يستفيد من آخر اللحظات من الحياة، فارت الذكريات وتراصّت صفوفاً صفوفاً، وكأنه فيلم سينمائي..!

ها هو ذلك الشاب البسيط المُعدم يتقفى أثر أحلام كانت تبدو مستحيلة، ويعود بها مُروّضة مُنقادة! أصبح رسّاماً مشهوراً، ويسكن حياً راقياً، وتزوّج ماريا، رفيقة الطفولة، وهديّة الغربة، انطفأ وهج السيجارة، وتوهج إحساسه بتلك المصادفة التي جمعتهما مرة أخرى، في بلد آخر، أسدل الستار وتحسَّس مساره في الظلام حتى لا يقضّ مضجعها، بدت له الغرفة تستضيء من وجهها الخمسيني، الذي لا يزال يحتفظ بنضارة الشباب.


كل شيء أصبح يَعِدُ بالهدوء والحلاوة، بعد أن اكتمل تحقق أحلامه، وأقام معرضاً كبيراً في بيت طفولته، ذاق أخيراً نكهة النجاح التي كان يشتهيها، تشبّث بذراعها، وغفا بارتياح، حين أن سمع صوت خشخشة، قفز من السرير بهواجس مسننة، طقطق القفل، وانفتح الباب، ولم يُمكّنه الوقت، ولا روْعُه، أن يتبيّن إن كان انفتح بمفتاح أم بكسر القفل، وقف كتمثال الشمع وسط دورية من الرجال المدججين بالسلاح والشراسة، وانقلبت الشقة في لحظات إلى مجمّع خردوات.


- وهج السيجارة يغنيك عن نور المصباح! خفّاش موهوبٌ! ومُقتصد!.. قال المقتحم باستهزاء.

ثم جال ببصره بين مجموعة من الرسومات، وأضاف:

- من شركاؤك في مخطط الظلام؟

- مخطط! «رؤية في الظلام» هو عنوان معرضي الأخير، الذي جسد الإحساس بالأعماق.. ردّ بهلع.

أشار ذلك المقتحم إلى لوحة استخرجها من قبو المنزل، وأطرد بمزيد من الثقة الشّرسة:

- تتعمق في الترويج لأفكار متطرفة، ظلامية! والمصيبة أن اسمك صالح، وأنت خطر على الأمن الإنساني!

- أيّ خطر! هذه مفاجأة لـماريا، هذا أوّل بيت جمعنا أنا وهي، كان على بساطته صرحاً قوياً، جعلنا نتجاوز ضغط الظروف، وعوائق المعتقدات.

- مصادفة، أن تُسجّل حدثاً يخُصُّنا! وتُظهر تلك اللافتة القديمة التي انتزعناها يومها من مدخل المدينة!.. أليس كذلك؟

- صدّقني، هي لماريا.. ليست للعرض، ستكون هدية عيد زواجنا المقبل.. قال يبرئ نفسه.

- تريد توريط زوجتك؟ أو من كانت زوجتك.. قال المتحدث وهو يرفع من وتيرة التهديد.

- كانت زوجتي!.. صرخ بقلق.

.. اقتحمت ماريا الغرفة، وهجمت عليه باهتياج:

- «اتفوه»، وحش، خائن، لم تعد موجوداً بالنسبة إلي!

وقف حائراً، مذعوراً، حاول أن يلحق بها، فاعترضه ذلك المقتحم، وأخبره بنبرة تطفح بنشوة الانتصار:

- انفجرت قنبلة في الحي القديم، وفقدت ماريا أخاها، تبنّت العملية جماعة متطرفة تُسمى «رؤية في الظلام»! تحقّقت رؤيانا في غمضة عين! لم تعد زوجتك.

- أوهمتموها بأنني وراء ذلك!

نظر إليه، وهو يضطرب كطير أخطأ السكين مسلكه في رقبته، وقال له بنبرة متشفية:

- مثلما هي الرؤية فن، تحقيق الرؤيا أيضاً فن، يا فنّان! ها ها ها..!

تسلل النور الطبيعي عبر شقوق النوافذ، وقفز انتباهه إلى الشارة التي تتصدر كتف مستجوبه، فصرخ مستنكراً:

- هذه شارة العابثين بلوحات التاريخ.. كيف وصلتم إلى هنا من دون أن ينتبه لوجودكم رجال الأمن، أو يعترضكم نباح كلاب الحي؟!

نظر ذلك المقتحم إلى زملائه وقال، يُصعّد من نبرة استخفافه به:

- الخفّاش الأعشى استدرك بصره في النور! يريد أن يستثير رؤيا أخرى! لم يكتف بما أريْناهُ!

ملأ نور النهار الغرفة، فاستقوى به صالح على خوفه، وقال لأولئك المقتحمين، بنبرة تحدٍّ:

- اعبثوا بما شئتم من اللوحات، النور لا تمحوه خرابيش الظلام.