السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

حدثيني عنه.. لم أعد أحتمل الفراغ

حدثيني عنه.. لم أعد أحتمل الفراغ

IMG_٢٠٢٠٠١٢٢_١٢٣٢٣٣ قصة الفراغ

بقلم: نورة حسن الحوسني كاتبة وروائية ـ الإمارات

تبدو رمال الشاطئ في مدينة كلباء بيضاء لامعة تحت أشعة شمس الصباح عند الضحى، فيما تلعق الأمواج الصخور على أطراف الشاطئ، قبل أن تعود إلى لج البحر الذي بدت مياهه لازورديّة اللون اتحدت حدودها مع زرقة السماء الصافية.

كان الطقس مائلاً إلى البرودة قليلاً، ويحمل معه نسمات منعشة بين حين وآخر، تحرك أغصان الأشجار القريبة من الشاطئ، فيما كانت تمسك بيد طفلتها الصغيرة، حيث اعتادت المشي على الشاطئ كلما جاءت إلى كلباء، فهي تحب البحر، لكنها تستعيد بذاكرتها أيضاً تلك الأيام التي قضتها مع زوجها الراحل، وصوراً تخشى أن تفقد بريقها مع الزمن، حتى غدا المشي على الشاطئ طقوساً بالنسبة إليها، وكأنها تمارس رياضة روحية تحاول من خلالها نسيان أعباء الحياة التي أثقلت كاهلها بعد أن غادرها رفيق دربها إلى الأبد.


أما الطفلة الصغيرة فقد راحت تغرس قدميها الصغيرتين في الرمال بسعادة وفرح، وتضحك كلما لامست مياه البحر قدميها، وفيما كانتا تغذان السير بمحاذاة البحر، توقفت الصغيرة فجأة، رافعة رأسها نحو أمها، وكأنها تذكرت أمراً ما قائلة بصوت متهدج لا يخلو من الحزن:


ـ إنني أشعر بالفراغ يا أمي، أحس بأن شيئاً ما ينقصني، يعكر سعادتي، وأرغب في البكاء.

راحت الطفلة تحدث أمها التي عقدت الدهشة لسانها، وبدت حائرة إذ كيف لطفلة في الـ12 من عمرها أن تتكلم عن الفراغ والشعور بالوحدة، وهي تمسك بيد أمها، مستقبلة صباح يوم جديد؟

بدت الأم مصغية لكلمات طفلتها باهتمام، وكأنها تنتظر مفاجأة لم تحسب لها حساباً، وهي تمسح بيدها المرتجفة على رأس ابنتها التي كانت تنظر إليها بعينين حائرتين، ثم ما لبثت أن احتضنتها، وطبعت قبلة على خدها الصغير، وهي تحاول إخفاء دموع كادت تسقط من عينيها، فيما كانت الطفلة تحرك يدها اليمني التي كانت تتأرجح بعفوية:

ـ لماذا تشعرين بالفراغ يا حبيبتي، وأمك برفقتك في يوم جميل كهذا؟

سألت الأم صغيرتها التي صمتت قليلاً كأنها ترتب كلماتها، ثم قالت بصوتها الطفولي الرفيع:

ـ لقد اشتقت لأبي، اشتقت ليده التي كانت تمسك يدي عندما كنا نسير معاً، اشتقت لأبي يا أماه، أحس بيده الدافئة وهي تغمر يدي، وعندما أحاول أن أشد على أصابعه أكتشف أن يدي فارغة، وأنني أمسك بالفراغ، لماذا يرحل الذين نحبهم يا أماه؟

كانت الصغيرة تتحدث بهدوء شديد، وكأنها تريد أن تكتشف سراً أخفته أمها عنها عن عمد، ثم قالت:

ـ ليت أبي معنا الآن يا أمي.. فما عدت قادرة على فراقه.

تتصنَّع الهدوء وتحاول استحضاره بصعوبة، قبل أن تضع كفيها على كتفي الصغيرة، وبعد أن تأخذ نفساً عميقاً تقول للطفلة التي ما برحت تحدق في وجهها:

ـ ومن قال إنه ليس معنا يا حبيبتي؟ ألا تعرفين أن الشهداء لا يموتون، وأنهم خالدون في جنة الله، وأن الله يحبهم كثيراً.

كانت تحدث طفلتها بهدوء قبل أن تنهمر دموعها التي شعرت بملوحتها وهي تنساب على أطراف فمها، أما الطفلة فقالت ببراءة:

ـ حدثيني عنه يا أمي، فما عدت أحتمل الفراغ..

لحظات من الصمت الثقيل أعادت الأم إلى سنين راحلة، بدت بالنسبة إليها كشريط سينمائي، فعادت إلى ذاكرتها أيامها الجميلة التي قضتها مع زوجها الشهيد، وتلك الرحلات والجلسات التي قضياها معاً، ومن بين شتيت الغيوم التي راحت تسبح في الفضاء لمحت وجه فقيدها الراحل، فضمّت طفلتها إلى صدرها وهي تبكي.