السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

«بيت الكريتليّة».. وجاير أندرسن

«بيت الكريتليّة».. وجاير أندرسن
مريم الزرعوني كاتبة وشاعرة ــ الإمارات

«بيت الكريتليّة» اسم لا يتردد كثيرأ كاقتراح للزيارة عندما تتوجه إلى مصر المحروسة، وتقرر استكشاف القاهرة القديمة، فهو وجهة الباحث النوعي فقط، الذي يتلمّس الحكاية المخبوءة في المكان، ويسبر طبقات الزمن نحو العمق، فيتوصل إلى نوادر الآثار بمستوياتها التاريخية المختلفة، مثل تلك المتوفرة في هذا الأثر بطرازه المملوكي ممتزجاً بالعراقة العثمانية، ومسحة الروح الاستعمارية الغربية، المتمثلة في الاستحواذ والامتلاك، فالعلاقة الفريدة بين الغرب الإنجلوسكسوني مع قلب الشرق المفعم بالسحر، تجلّت بمستويات رفيعة في هذا المبنى الذي يعرف ببيت«السير جاير أندرسن»، فقد بناه أحد أعيان القرن السابع عشر، ثم استمدّ اسمه «بيت الكريتلية» من عائلة يونانية، تمتد جذورها إلى جزيرة كريت في البحر الأبيض المتوسط، استوطنت القاهرة في مطلع القرن التاسع عشر واشترت البيت الكائن في حي السيدة زينب.

التحق السير جاير أندرسن بالخدمة العسكرية ضمن القوات البريطانية في مصر، في مطلع القرن العشرين، وأثناء تجواله بأحياء القاهرة، وفي حي السيدة زينب تحديداً، وجد في بيت الكريتلية المكان الأمثل للإقامة هو وعائلته، بُعيد تقاعده.


ما لبث أن توسّع هذا البناء بإضافة قنطرة تصله ببيت السيدة آمنة بنت سالم الجزار المجاور له في ذات الحي، والذي شُيّد في القرن السادس عشر، ليصبحا صرحاً واحداً يصعب تمييز مكوّنيه.


اكتسى البيتان بالمشربيات الخشبية المزخرفة، وإطلالاتها الأخاذة على الأفنية الواسعة، المزدانة بأحواض المزروعات النحاسية والنوافير والبرك المتوسطة للممرات المكسوة بالحجارة الصلدة.

وقد قدم الطبيب طلباً رسمياً إلى مصلحة الآثار العربية حينذاك، ليضمّن المبنى تحفاً من الأثاث والمقتنيات الأثرية القيّمة المملوكة له، من مختلف أنحاء العالم، طوال مدة إقامته فيه، على أن تعود ملكية البيتين بمحتوياتهما إلى المصلحة بعد وفاته أو مغادرته القاهرة، وقد كان ذلك في عام 1942م.

تحوّل المبنى إلى متحف في أحد أشد أحياء القاهرة الإسلامية اكتظاظاً بالسكان، ويشكل جزءاً من سلسلة آثارمتقاربة يمكن زيارتها تباعاً، وهو يضمّ كنزاً من الآثار العربية والإسلامية، والقطع الفرعونية والقبطية والآسيوية تعود للضابط المسكون بغموض الشرق، فنرى ذلك متمثلاً في طرز الأسرّة والمجالس، والمصابيح الإسلامية المعلقة، والصناديق وأطقم الجلوس الشرقية الدمشقية الخشبية المطعمة بالصدف، والسجاد الفارسي اليدوي والتركي الحريري، وغيرها من تحفٍ أخذت منحىً آخر من الجمال الأوروبي متمثلاً برقة ثريّات زجاج «مورانو» الإيطالية، وأطقم السفرة الإنجليزية، والأواني الخزفية الفيكتورية، وعدد من لوحات الضابط «الرسام» التي رسمها بنفسه، إضافة إلى مقتنياته لأصدقاء ورسامين آخرين.

لكنّ أكثر ما يلفت الانتباه حجرة تدعى بحجرة «العرايس» مبنية بنظام هندسي فريد، يسمح للهواء بالدخول بشكل مركز وشدة عالية من خلال مجموعة من الكوّات الموزعة في جدران الحجرة، والتي تجعل الغرفة ذات تهوية مستمرة وباردة نسبياً، الغرض منها الحفاظ على زينة العروس ومساحيق التجميل على وجهها في الجو الحار.

وربما المفارقة تكمن في أن يسكن الضابط الإنجليزي في بيت مجاور لمسجد السلطان المملوكي أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية، حيث تفتح الشبابيك والمشربيات بشكل مباشر على فناء المسجد الخارجي، وهنا بعيداً عن التقاليد الإنجليزية الصارمة، والطباع الحادة، يظهر التماهى بين الإنجليز عُشّاق الشرق، والطقوس العربية الإسلامية الصاخبة لا سيما في المناسبات الدينية والمواسم كرمضان والعيد، والموالد، والتي عادة ما يحييها المسجد.

وتظهر هنا صورة جلية لسماحة الإسلام وتعاليمه متمثلة في المسلمين وقبولهم الآخر، باكتنافه بالرعاية واشتماله بالمسؤولية.

من لم يحظَ بزيارة المتحف ورؤية جمالياته، فليجعله إحدى وجهاته في الزيارة المقبلة، وإلّا فقد فاته من الجمال، ومساحات التأمل وفُسَحُ التفكر، واستلهام العبر، شيءٌ لا يغتفر..