السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

في «علامة» بريق خاطف

في «علامة» بريق خاطف
د. فضيلة ملهاق روائية وشاعرة ـ الجزائر

أشرقت شمس الصباح بيوم جديد، أتم لحليمة سبع سنوات كاملة من التدريس في متوسطة (علامة)، ثبتت الخريطة على السبورة، كالعادة، بنشوة حاكم يباهي بمعالم سلطته، فلم يخفت بريق الخرائط والمعالم التاريخية في نفسها، حتى بعد أن ظهر لها الفرق بين تاريخ المدرسة التي كبرت فيها، وبين مجسمات المدرسة التي وجدتها، فلم يعرف زمن أحلامها سبورات ينزلق عليها قلم اللباد انزلاق زلاجات ممتعة، ولا كلمات تراقص الجدار بأطياف النور، ولا عرفت الرواج الكتب شبه المدرسية ودروس الدعم، ولا وجدت المكتبات الإلكترونية، لكن الالتزام بثوابت المكان كان من المسلمات: هذا مكان المعلم، وهذا مكان طالب العلم، وهذه معالم المدرسة!

كان للمكان بريق خاطف، أغراها بالعودة والجلوس على الكرسي ذاته، وكادت تقع أرضاً في أول يوم، لولا أن انتبهت لكون أحدهم عبث بالبراغي، وأعادت تثبيتها، وتوسعت بعدها لعبة فك البراغي وتثبيتها، إلى مناهج التربية والتعليم، والبرامج، والأحلام... وتعددت أطرافها، وتنوع المفككون والمثبتون، وتكررت معاناتها، وتعاظمت هواجسها، في كل مرة تتمدد حدود المدرسة إلى أقاصي المعرفة لمجرد أن يتم اختزالها في علامة وقف.


واجهت مواقف غرائبية عدة، ولم تملك سوى أن تتصبر بالذخيرة القديمة: «نور الفكر يبدد عتمة مسالكه».. العبارة السحرية، التي تستبقيها على صراط أبطالها في التعليم، وعلى رأسهم المعلم فارس، الذي حفرت حكايته مع ابتلاء البصر وبلاء البصيرة عميقاً في وجدانها، كان يؤمن بأن المدرسة هي واجهة الأمم، وما من خلل في مسارها إلا ومرده إلى خلل في مناهج التربية والتعليم، وقدم على هذا الأساس خلاصة خبرته المهنية إلى الجهة المعنية، وتلقى ردها بعد صبر طويل، بعد أن فصلت التقارير الطبية في أمر وضعه الصحي، وأكدت إصابته بتناقص غير مستدرك في البصر.


لم يعد يفرز الحروف، واستمر فحسب يكابر، ويتحايل على عجزه، بالاعتماد على ذاكرته في تحضير الدروس، وصدر قرار إحالته على التقاعد المسبق، وجاء بعده مباشرة قرار لجنة دراسة الجدوى حازماً: «نظراً لأنه تبين لنا استحالة أن يقوم شخص أعمى بكتابة ما يزيد على الخمسمائة صفحة، بلغة سليمة، وأسلوب سلس، وبدقة في الطرح، قررت اللجنة، بالإجماع، رفض مشروع المدعو فارس، الوارد تحت عنوان: «الإصلاح»، انطلاقاً من مناهج التربية والتعليم،

تراءت لها صورته وهو يتحسس مساره بالمسطرة الطويلة، آلمها وضعه، ومنظر عدة القياس والشرح، واتجهت إلى قاعة الأساتذة بنفس مقرفة من الكلام، لكن رحى الأحاديث أجبرتها عليه، أوصلت لها الجعجعة المعتادة، عن ظروف التعليم، وتمرد التلاميذ، وعدم تفهم أوليائهم، ونقص المحفزات... فلم تتمالك نفسها، وباغتتهم بالعبارة المعتادة:

ـ «وحده نور الفكر يبدد عتمة مسالكه».

ثم هرولت نحو الخارج، لتتجنب تعليقاتهم، لكن لم تسلم منها، وصلتها أول شرارة قبل أن يكتمل انفصال جسدها عن الكرسي الذي كانت تجلس عليه.

- تظن نفسها علامةً فارقة! ما الذي تنتظره من مدرسة التاريخ غير الشعارات المحنطة، والخطب المنخورة؟ دروسها تسلية، مجرد حكايات ونوادر.. قال أحدهم باستياء.

- الأطرف أنها تلبس نظارات شمسية في القسم، لتبدو أصغر سناً، وتكسب ودهم!.. أضاف آخر.

ارتطمت في غمرة ارتباكها بأحدهم، فوقعت نظارتها الشمسية، وكشفت عن عينها المتورمة، المحاطة بهالة بنفسجية داكنة، تتخللها مسحة من اللونين الأخضر والأصفر.

- من فعل بك هذا؟.. تعالت أصواتهم بهلع.

- طلبت من أحدهم أن يحدد معالم تاريخية قديمة على الخريطة، فاستخرج لوجهي أحْدث المعالم.. ردت ببرود.

- ضربكِ؟.. تعالت أصواتهم تستنكر فعله، وتتضامن معها.

- كلا، دفع للحكواتي مقابل التسلية، علامة فارقة!