الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

في بيروت.. كثير من «ملاك»

في بيروت.. كثير من «ملاك»
ميـرا عبدالعزيز مهندسة ـ الإمارات

مضى يومان على انفجار بيروت.

مصائب العالم العربي تدميني.. أنا الفتاة التي تربت على ترديد أغنية «الحُلم العربي»، والتي أمضت الطفولة وسنوات الدراسة وبناء الحُلم مع مختلف الجنسيّات العربية، أعرف جيداً معنى غربة الوطن، أتلمسه في صحبي الموجوعين دائماً على أوطانهم، الذين ينتظرون بلهفة الأيام التي نحتفي فيها بتواريخ دولنا العربية في المدرسة، فأراهم يخططون ويحيكون الحكايات والقصص وما سيروى.. المتلهفين دائماً لإخبارنا بأن لديهم وطناً وأرضاً.. وانتماء.


كبرت، في وطني الذي احتضن كثيراً من المغتربين ليتسع ويصبح وطنهم أيضاً، وملاذاً آمناً لهم.. الوطن الحنون.. كبرت، وأنا أحمل في داخلي قضية فلسطين، ولا يخفى هذا عن جيلي، فكلنا نحمل قضية فلسطين بطريقة ما.


أتذكر جيداً صديقتي نور، الفتاة الهادئة التي كانت على يميني في آخر السنوات الدراسية في المدرسة.. الفتاة التي لطالما ترجمت حنينها لفلسطين بقصيدة تتلهف لإلقائها على مسامعنا، لتخبرنا بعدها أنها عن فلسطين ولفلسطين، وكأنها تخبرنا عن أعز الأصحاب، ونتظاهر بأننا لا نعرف أنها تقصد فلسطين لأننا نحب هذا الإخلاص فيها، أو نصغي لحكاية ترويها عن والدها الذي أسمته «صابر» تيمناً بصبره على الغربة.

نور لم تكن تعي أن الجميع حولها يعرف صابراً واحداً على الأقل في حياته، نور كانت دائماً ـ وعندي يقين أنها لا تزال ـ تضع سلسال علم فلسطين، وهنا يحضرني قول مريد البرغوثي:

«فلسطين ليست الخارطة الذهبية المعلقة بسلسال ذهبي على أعناق النساء في المنافي».. فلسطين معلقة في قلوبنا جميعاً وفي قصص نور.

كبرت، وأنا أحمل في داخلي رسالة سلام، أود أن أزرعها في قلب كل مغترب، أود أن أطمئن كل قلب يحنّ لأرضه، لأهله، للذكريات والطرقات: أن شمس العودة ستشرق من جديد، قريباً، أولهم صحبي المتفرقون في دول العالم ليجمعوا أحلامهم، وهم حاملون حلمهم الأكبر: العودة للوطن.

كنت صغيرة في حرب لبنان 2006، إلى أن أتاني خبر استشهاد صديقتي «ملاك»، وكيف لطفلة مثلي أن تعي معنى الحرب وقتها؟.. كنت أسأل كثيراً ولم يجبني أحد، كان معنى الحرب أكبر مني بكثير!، ولكنه لم يكن أكبر من ملاك، المتوفاة بسببه.

بالمناسبة، بعد عشر سنوات، رأيت «ملاك»! عندها آمنت بالمعجزات، ملاك لم تمت، لأنها كانت من المفقودين الذين يئسوا من البحث عنهم، ولم تيأس هي فـ«على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

رأيتها بفارق واحد عمّا كنا عليه من قبل، وهو أننا أصبحنا واعيتين بما فيه الكفاية لنعرف معنى أن يعيش المرء حرباً، وأن يفقد أحد أصدقائه بسبب الحرب.

انفجار بيروت 4 أغسطس 2020، أنعش هذا الألم، كثير من (ملاك) الآن في بيروت.. حتماً أصبحت أعي كل شيء الآن ولا تساؤل في رأسي، لا شيء سوى أن قلبي يؤلمني، جراح الوطن العربي تصب فيّ.. أنا الفتاة المتعلقة بوطنها وأرضها، وأفهم جيداً معنى أن ينتمي المرء بجميع حواسه لبقعة جغرافية يرى فيها الأحلام والعمر.. يؤلمني أن يسلب أحد في هذا العالم أرضه، بطريقة لا يعرف ماهيتها ولا يعيها.

أرى الجريح، أرى من يعزي قلبه على فقد حبيبته، وحسبه أن اللقاء في الجنة بإذن الله.. أرى من يمشي ثائراً لا يعلم لِمَ من هول الصدمة.

أرى من تمشي في الطرقات تهدئ من حولها لتفهم هي أن ما حدث لم يكن مصابها بل مصابهم جميعاً، ومُصابنا أيضاً.

فجراح لبنان.. جِراحُنا.

جراح الوطن العربي.. جِراحُنا.

جراح الإنسان.. جِراحُنا.

لبنان، بلد الثقافة، الحب والرقة - كما عهدناه - سيعود يوماً أقوى، وأرق وأجمل!، ولـ«بيروت»... من قلبي سلام