السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

« كوميديا لفتة».. قلب الجحيم وقيمة النّعم

« كوميديا لفتة».. قلب الجحيم وقيمة النّعم
عبيد إبراهيم بوملحة روائي وكاتب ـ الإمارات

بعد المعري ودانتي، يلتفت «فريد لفتة» لجحيم النفس البشرية، في كتابه «الكوميديا البشرية»، الصادر عن مداد للنشر الإماراتية في 2020، حيث يغمسنا في قلب الجحيم، ويُطهِّرنا ليرينا النعيم.

الكتاب لم يكن تعرية للبشرية أو مرآة عاكسة نرى فيها دواخلنا، بقدر ما كان غوصاً وتحليلاً وتفكيكاً للنفس، بطريقة مبتكرة ابتعد فيها عن الفلسفة الجافة، وليّنها بالقصص والأحداث لتكون منطلقاً، وأخرى داعمة أو مبيِّنة للفكرة التي يطرحها ويترك للقارئ مجال التفكير لفهمه، حسب رؤيته وخبراته ومعتقداته، ليثري أفكاره هو كفيلسوف بمصادر مختلفة ومتباينة من الفهم، مستخدماً أسلوب السخرية التي بينها في مقدمة كتابه بأنها مختلفة عن كوميديا دانتي: «الكتاب يمجّد الذات الإلهية وأن كلمة كوميديا هنا تعني أناشيد مقدسة لا عبثاً أو ملهاةً».


ويؤكد لفتة أنه ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه أرسطو في تعريفه لكلمة كوميديا حيث قال: «الكوميديا هي ما يبعث على الضحك منها هو النقيصة التي لا تسبب الألم»، ليبيّن معناها عنده: «هي مجون، وهزلية، ولعب، وازدراء، واستهتار، وتخبط وفوضوية البشرية، لا ضحك فيها.. فالكوميديا عندي لا تبعث على الخشوع ككوميديا الإغريق ودانتي، ولا تدعو للضحك ككوميديا أرسطو، بل هي كوميديا المضحك المبكي بسبب تناقضها وعبثيّتها».


ولتوضيح الفكرة أكثر يضيف لفتة: «لمن يقول: إن البشرية أنجزت الكثير، أقول: حتى إن كانت هنالك إضاءات أو إنجازات أو تقدم يذكر، فهو نتائج لتفاعلات وتدافعات ومشاحنات عشوائية غير مخطَّط لها، ولا مخطِط لها، مثل مقامر يكسب حيناً ويخسر غالباً، لكنه كسب لا يشكر أو يحمد عليه، فلم يأتِ من فكر وعمل بل من عبثٍ وتجريب ولعب».

دائماً ما أعتبر أن السخرية فكرة خاطئة في ذهن شخصية، تقوم على أساسها زلات كثيرة مناقضة للمألوف، ولم أتصور أن أقرأ السخرية كمادة خام، فُصلت مكوناتها، ونُقِّيت، وأبرزت شوائبها في كتاب فلسفي، وهذا ما تفاجأت به، فالكاتب لفتة يراهن على العقل كمبتغى إنساني في ظل تبدليّة الأحوال وتجددها، حيث إنّ الحقائق لم تكن جامدة أبداً ولا معتّقة بل تستمد تجددها من الأحوال الإنسانية والطبيعية التي يشرحها العقل، لتكون منتجة غير مكبلة، تسلب الفكر الإنساني توهّجه، والعقل تأملاته وقراءاته، وتكون حادة للرؤى والآمال المعرفية في ظل الصناديق المغلقة غير القابلة للمساس.

كما يجعل من المساءلة قاعدة للانطلاق يؤكدها في تساؤلات يضعها في نهاية كل فكرة لإطلاق العنان للتفكير، مثلما قال بترونيوس أربتر: «ينبغي أن نطلق العنان للروح الطليقة».

ويبدو أن «شخصية» فريد (الطيّار) قد أثرت على تجربته الكتابية، فتحليقه في السماء كان رحماً للفلسفة، انبثقت منه أفكاره التي يرى فيها العالم والبشرية من فوق الغيوم، لتلطف نفسه، ويأخذ قبساً من رحمة يؤطره في كتابه لمعالجة الأمراض النفسية والتدافعات الإنسانية من أجل حياة أفضل.

تسلّح الكاتب هنا «بشخصية» فريد (المغامر)، الذي خَاطر بحياته غير خائف في سبيل تحقيق أهدافه الشخصية، والتي لها ارتدادات إنسانيّة ركّزها في الاهتمام بالأطفال، ليتخطَّى القوالب السائدة الثابتة، وهي أحد أهم أساليب الإقناع لما لها من ألفة وسهولة التقبل من الأطراف المتلقية، وكسرها قد يعتبر خروجاً عن المألوف، وأمراً يستنكر، ما يتطلب قدراً كبيراً من الشجاعة استمدها من فهمه لمضمون مؤلفه فنياً وعلمياً، ليرمي حجراً في بحيرة الفكر، فكما قال «جون ستيوارت مل»: «هذا الرجل، المسيحي فيه كل شيء عدا العقيدة، اضطهد المسيحية! لقد كان يعلم أن المجتمع القائم في زمانه كان في حالة يرثى لها، غير أنه رأى أن ما يمسك هذا المجتمع ويحفظه من أن يصير إلى الأسوأ، هو: الإيمان بالآلهة القائمة وتوقيرها».