الخميس - 18 أبريل 2024
الخميس - 18 أبريل 2024

طفولة على وشك النّفاد

طفولة على وشك النّفاد

٢٠٢١

بلقيس سليمان عبدالله الجابري طالبة - اليمن

كأنه ضحكة سقطت إهمالاً وسط بكاء، أو كتاب وقع وسط قطع السلاح، أو أمان يداعب الحرب فتظنه من براءة عينيه راية السلام، أو بنادق تتكئ على أغصان الورد، أو رصاص يحتضن الحمام، ودرر تستلقي في عمق الوحل، وحامل مسك يتبع نافخ كير.

كأن نعيم الجنَّة خُلط بالجحيم، وفي فؤاد الزهر ولد شيطان رجيم، والصفحات البِيض يملؤها السواد المُشين، والهلاك خطف نور الحياة، والتائه فقد طوق النجاة، ووعيد الظالمين ضحيته الأبرياء والزهر يُسقى دماء، والعيد تملؤه زغاريد الشهداء.


هنا تَغضّ بنادق العدو الطَرف عن روحه العذراء، ويرجو السلاحُ الشمسَ غروباً خوفاً من عدوٍ يَرى، في زمن تمنَّت الرمال لو أنها تكون لجسده النحيل دِرعَ وقاء، لتُشفق الرصاصة على يَديه الصغيرتين، التي في خُطوطها شواطئ «المُكلّا» العتيقة وأزقة القديمة صنعاء.


تمنّت القسوة لو أنها لم تكن تعيش فيه وفي الرأفة أوْرِدَتُه، وفي وطيس المعركة تُلفت أنظاره أسْرَاب الطيور المسافرة، وهو يسافر معها، مرتمياً بأحضان السماء، وملتحفاً بالغيم، ومتشبَّثاً بالنجوم فزعاً، فتقرأ عليه آيات السكينة والأمان ودعاء الحفظ والاطمئنان.

يَغفو فيمطرهُ الغيم برائحة الفل والبُن، وبصوت الفنان أبوبكر سالم بلفَقيه يغني: «أمي اليمن» وآهات الحرب تخاله صوت أيوب طارش عبسي «عندليب الأشجار يغني»: لمن كل هذه القناديل تضوي لمن.. «كأنه يعلم أن القناديل ستضيء للعدم، والمواويل تُغنَّى بكل أسفٍ وندم، وعجوز يُمايل رأسه للنغم مدندناً».

هو الطفل.. هو الشمس، والأمان والوطن، وهم الظلام والخوف والمنفى.. هو الأمل والقارب والربَّان، وهم بحر بلا مرفأ.. شَكت عيناه منهم أرقاً، والقلب تضارب دقاتهُ الثقال، والتنهدات تتزاحم على الصدر، والخلاص هو المنال، والدموع تمسك طابوراً على المُقل الطِوال.. ووجهه سُرقت منه البسمة فبقي مُطْبق الشفتين، والضحك فيه صعب محال.. تسطو عليه الذكريات أحياناً فيسمع صوت اللعب والأصدقاء، وأمه تخترع الحلوى، وكلام أبيه له عن الرجولة الصادقة العمياء في أضلعه لهيب القهر والحسرة الحارقة، يحسب الطوفان وهو يجرفه أنه حامٍ من الكارثة.

هناك سفر بلا وجهة، وقارب في المحيط مثقوب، والحياة بلا إيمان ولا مصير، فليت الـ«ليت» تصبح حقاً ويكون للوطن سكان، فيخيط ليله بنهاره، وتكون السنون يوماً تُهضم فيه ويلات الحرب وصرخات الضحايا، واليأس المتكرر الممدود خاف الأنامل أن تُنقش فرحاً، فتقطع اليد والساعد والعضد، وينطق اللسان مُرغم الولاء للظالم والمجد.

هنا الواقع المر، والأمل حين يُخذل هنا الليلة ألف قرن والصبح ثوانٍ أو يكاد.. لا توجد هنا صفّارات الإنذار،.. هنا لا يُذكر الأحبة إلا دمعاً يُسطِّر ورقاً، ولا يصلهم إلا وقد بات تحت التراب زمناً يدفن الحنين في جوف الليالي، ويصبح منفى وسط الوطن، فمن كالذي رحل من؟ ومن يملك في عينيه شمساً وقمراً؟

وتطوف الكواكب حول وجهه ناكسة الرؤوس من الحسن، ومن يرتدي الغيم على كتفيه والاستمتاع بداخله خُلق بفن، فالليل يستعمره، ومن يحرره من القيود، ومن الأغلال يفكه؟ فالقحط بالأمطار يعود، فتَعُج المقاهي بالنغم من جديد، فتوحي لك بواقع أمثل، حين تعود المدارس المهاجرة وتملأ كراسيها الأحلام، والعلم قد أقبل.

تعود الكتب من جبهات الحرب، وتُرتب بعضها في الحقيبة، والسلاح قد أُبدل تَبيض أسنانه بالابتسامة، وتهمس لبعضها: الدعوة تحققت، تحققت، فيُحزم الشيب حقائبه والملامح حين عَبست، وتنسى التنهدات دربه، وتركض الضحكات أيٌّ منها قد سبقت.

تُرى من يُعيد الطفولة إلى ديارها؟ ويكون يوماً مشهوداً يَرد الفرح لعينيها من جديد، ويَأخذ منها البرود، ويَرد الضمير والبراءة والطفل المسروق، ومن يمحو عن وجهها الجفاء؟ ويصبغ شيب الرأس وإلى أصله يعود، فيَرجع القلب المهاجر بين قفصيه أماناً، ويتحقق الواقع المنشود.