الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

في عِشْق المُدن

في عِشْق المُدن
تشير تقارير التنمية البشرية سنويّاً إلى أن مظاهر الهجرة نحو المدن، تعد من أكثر مظاهر الهجرة في العالم، وتؤكد بعضها، خاصة في منطقتنا العربية، أن جلّ شباب القرى والأرياف هم مشاريع هجرة مؤجلة، تنتظر الفرصة للانتقال إلى المدينة، بحثاً عن العمل والرّزق، وأملاً في تحسين مستوى المعيشة، وتحقيق بعض من الأحلام المؤجلة أيضاً.

وتُجمع كتب التاريخ والعمران، وعلم الاجتماع والجغرافيا على أصل المدن، التي كانت عبارة عن قرى أو لم تكن أصلاً، لكن اكتشاف نفط أو تدفق ماء أو اكتشاف منجم، أو بناء مصنع أو محطة قطار، يكفي لكي تنشأ بلدات وحواضر، وهذا شأن بلدتي ومسقط رأسي التي نشأت على جنبات محطة القطار، وتوسعت لاحقاً إلى حد أن نسي الناس المحطة، رغم أن البلدة ظلت لوقت قريب تسمى «لاغار» أي المحطة، وهي ترجمة حرفية لكلمة «La gare» من الفرنسية.

تتميز المدن في الغالب بسمة «الإغواء أو الإغراء»، التي تستخدم عند المتخصصين في التسويق والإعلان، لكسب المتعاملين والزّبائن، وهذا حال المدن فالداخل إليها يقع تحت تأثير هذه (الإغواءات)، لذلك يستسلم بعض القادمين إليها، وتتحول سفرياتهم لأجل العمل إلى إقامة واستقرار دائم بهذه الأمكنة.


قادتني دراستي الجامعية إلى عاصمة البلد، مدينة «الجزائر» أو «الجزائر البيضاء» أو «البهجة»، «المحروسة» وهي أسماء أطلقها عليها أناس تيّمهم عشقها.


عندما انتقلت إليها لأول مرة أحسست في الأيام والشهور الأولى بحالة من الاغتراب، والرفض للمكان، بل كنت أعدّ الأيام والليالي منتظراً تاريخ إجازة أو مناسبة لأهرول نحو محطة القطار أو الحافلة، قافلاً نحو مسقط رأسي، وكانت الإجازة حينها تبدو لي قصيرة والأيام متسارعة وكأنها غفوة خفيفة، لأفتح عينَيّ وأجدني ها قد عدت إلى المكان الذي لا أزال أرفضه.

مرّ فصل أول على الدراسة، وانطلق الفصل الثاني، وكان مع بشائر فصل الربيع، فصل الهوى والعشق، بدأت أشعر بشيء يجذبني نحو هذه المدينة، بعد أن تعرّفت على تقاسيم وجهها وجغرافيتها، في شوارعها وحواريها، وفي محلاّتها وملاعبها، وبدأ حنيني بالعودة إلى الدّيار يتضاءل، وصرت أقضي شهوراً دون التفكير في ذلك، وبعدها أعلنت جهاراً عشقي لهذه المدينة، وصار عصيّاً عليّ مفارقتها، وأدمنت زيارتها خلال الهجرة كلما عدت إلى الوطن.

لكن بعد سنوات بدأت أشعر عند زيارتي لها بشيء من الغربة، بدأت أرى المدينة، وقد عادت إلى صورتها الأولى المتوحشة التي رأيتها فيها في أول زيارة، ما عدت أجد بها صحبتي ورفقتي الأولى، ومن أجدهم أرى في أعينهم عدم الاكتراث بمروري، وأجد عند غالبتهم العبارة الجاهزة والمغلّفة: «سامحني ليس لديّ من الوقت، وإلاّ عزمتك على... عذراً كلّمني لاحقاً على الهاتف».

حتى الأماكن تغيّرت، المكتبات تحولت إلى محلاّت لبيع البيتزا والألبسة والهواتف الجوّالة، حتى الساحات تغيّر شكلها. جامعة الجزائر التي تقف بشموخ منذ عام 1909 وسط العاصمة، لم تعد تبادلني نفس الشعور، وحتى بعض من الطلبة المتجمّعين أمام بابها لا يشبهون جيلي من الطلبة في الهيئة والملبس والحديث. هذه « البهجة»، عشقي الأول، أعود إليها ولسان حالي يردد:

«وُلْفِك كِيْف سَاهَل..... وفِرَاقَك ما قدرت عَنُّو».. أي: «ما أسهل أُلْفتُك، وما أصعب فراقك وهجرانك».

لكنها تتمرد عليّ وتستقبلني بهذا الجفاء!! ربما لأنني عشقت بعدها مُدناً أخرى، منها الإسكندرية، وغنيت لها «شط إسكندرية»، وأنشدتها بعض من نظم أحمد فؤاد نجم:

يا اسكندرية ...بحرك عجايب

ياريت ينوبني في الحب نايب

أغسل هدومي في اسكندرية

وأنشر همومي في اسكندرية

على شمسه طالعه... وأنا فيها دايب.

ثم هجرت الإسكندرية، لأتعلّق بالشارقة، بعد أن طاب لي المقام بها حيناً من الزمن، كيف لا وهي مدينة تستقبلك في المطار بثغر باسم وهي تهمس: ابتسم أنت في الشارقة.

هذه هي المدن، نرفضها، ثم نعشقها ثم ترفضنا، نقيم فيها وتقيم فينا، يدخلها خلق ويغادرها خلق، وتبْقى هي شاهدة على العابرين.