الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

«شعاع البرونز».. صوت «أم النار» و«تل أبرق»

«شعاع البرونز».. صوت «أم النار» و«تل أبرق»
لدى كل فرد شعور بالاهتمام بثقافة الأصل، وهو متفاوت من فرد لآخر، حتى يتحول عند البعض إلى شعور آخر بإهمال الأهمية، عندما يعجز عن استكمال البحث أو قد يكون في أغلب الأحيان عند تراجع الشجاعة بطرح التساؤلات.

لقد أخذت ما يعرف بـ«علوم الأصل» حيِّزاً كبيراً في الدراسات الحديثة وما بعدها، حتى إن بعض الباحثين استخدم في أدواته التساؤلات المنبعثة من الخرافة والأساطير، حيث إن الخرافة فسّرت أموراً كثيرة بمصير البشر والمخلوقات المختلفة بالاعتماد على قوى خارقة وحكايات، إلا أنها عززت مشاعر عدم الأهمية عند الذين كانوا في قرارة أنفسهم مهتمين، إلا أنهم آمنوا بالخرافة كنص شعبي مقدس عند معظم شعوب المعمورة إيماناً منهم باللجوء لتعطيل التفكير ظناً منهم أمناً وراحةً، وبالتالي إهمال جواهر الحقيقة، ومن تلك النصوص استخلص بعض الباحثين التساؤلات.

وعندما نعود إلى «عصور ما قبل التاريخ» وما بعدها، نجد أن في كل منطقة من مناطق العالم سمات مشتركة مع مناطق أخرى تعود لنفس العصر سواء قبل التاريخ أو بعده، وهنا كانت إمكانية ربط الأصول واستنتاج بعض جواهر الحقيقة لدى العلماء والباحثين، والتي كانت تزيد من فرط الاهتمام الحَسَن واستبعاد الإهمال في البحث.


نأتي هنا على سبيل المثال لفحص العصور البرونزية المبكرة والوسيطة والأخيرة، لنرى أن قارة آسيا كانت ذات النصيب الأقدم في دخول العصر البرونزي من منتصف الألفية الرابعة قبل الميلاد، والشواهد في ذلك كثيرة أكدتها الأدوات البرونزية التي تم العثور عليها في أماكن متفرقة ومتعددة في آسيا، يعود فيها البرونز بين حوالي 4000 و3000 سنة قبل الميلاد.


ومن السمات المهمة لهذا العصر كانت المدافن وظهور المقابر وطرق الدّفن، حيث بدأ الإنسان يفكر بالاحتفاظ برفات الميت وجثته وفق هندسة تتناسب مع معتقده الديني الذي بدأ في التطور وقوانينه السياسية التي بدأت في التمحور حول متطلبات عصره، فكانت هذه العصور البرونزية بمثابة الخطوات الأولى للملوك والكهنة لوضع قوانينهم في الدفن وتصميم المقابر.

وتأتي مقابر «أم النار» هنا في أبوظبي كشاهد على العصر البرونزي والتي تحتوي على أكبر مقبرة تم العثور عليها في دولة الإمارات بقطر يبلغ 15م، وهي بآثارها تعطينا مفهوماً عميقاً لثقافة أطلق عليها ثقافة أم النار، والتي تتشابه إلى حد كبير مع جارتها القريبة في «تل أبرق» الذي يقع على الحدود بين الشارقة وأم القيوين.

فقد جاء تصميم المدافن في المنطقتين ليأخذ الشكل الدائري فوق سطح الأرض، بتصميم مقبب من الحجارة وبحجرات داخلية تحتوي على أدوات وهياكل البشر المدفونة بأعمار مختلفة، وحالات صحية متفاوتة أيضاً، وإن ثقافة العصر البرونزي المشتركة في المنطقتين ومناطق أخرى من الدولة، تؤكد بالدرجة الأولى الاتصال القوي والواسع بالتجارة والدين والسياسة والثقافة المجتمعية، التي ولّدت هندسة المدافن.

تلك الهندسة التي تشير إلى دلائل وتساؤلات أخرى في علم الاجتماع وعلم الأنطولوجي، وغيرهما من علوم الإنسان والأصل غير المادي، ومقارنته بالعصر نفسه في العثور على طرق دفن من نوع مختلف في قارات أخرى مثل أوروبا، حيث يتم حرق الجثث ودفنها في جرات من الفخار، تزامناً مع التحول الكبير في الصناعة عند البشر في عصور ما قبل التاريخ، والتي جعلت بعض الشعوب تنتهج هذه الطريقة في الدفن انتصاراً للصنعة الأولى التي أنجزتها يده أكثر من إيمانه بمعتقد ما، فصناعة الفخار كانت هي الصناعة التي أدهشت إنسان العصر البرونزي.

في حين أن المقابر الدائرية في دولة الإمارات، والتي تعود للعصر نفسه تمنحنا صفحة جديدة في الدراسات العلمية لمعرفة أصل العلاقات الإنسانية الوطيدة، والتي لعلَّها فضَّلت الحميمية في هندسة المقابر، وهذا قد يكون إيماناً منها باحتضان الرفات والجثث، بعلاقاتها المتأصلة بالأرض والإنسان معاً في حضن دائري.