السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

أُنُوثة البوح.. وجدَّتي البيضاء الورديَّة

أُنُوثة البوح.. وجدَّتي البيضاء الورديَّة
شهيٌّ هو الكتاب الذي أقرأه، مَحَاوِرُه تجري بالقارئ عميقاً وفي كلِّ اتجاه، وفي هذه الكتابة سأقتطع قصَّة ضربتها كَاتِبَتُه مثلاً عن المرأة التي تُفْجع في أحلامها، وتضطرُّ إلى ارتداء ثوب لا تنتسب إليه حين تتزوج من رجل يختلف عنها، يفقأ أحلامها، ويدعها كليلة تائهة مخلخلة النفس.

القصة تتحدث عن امرأة قد ينعتها البعض بالحالمة، تمارس حريتها بأسلوب رومانسي لا يؤذي أحداً، لكنه يجلب إليها السعادة والإحساس بالحضور الإنساني، فقد كانت تحبُّ أن ترتدي قبعة كبيرة من القش، وتنطلق في الأسواق مثل حجل، أو دوريّ، تتسلى وتستمتع برؤية الواجهات، والناس في انطلاقاتهم، وتبعثرهم، وخببهم اليومي..

هكذا، فقط.. هذه المرأة تزوَّجت، دخلت منتجعاً زوجيّاً، خاضت فيه مع الصحون، والطبخ، وتربية الأطفال، ومتطلبات زوج لا تنتهي، وعمل خارجاً لتساعده، فتنصَّلت منها الشاعرية التي كانت تهبها السعادة البسيطة تلك، إلى أن جاءت لحظة ما دفعتها إلى الثورة، حملت القبَّعة القديمة، أطرَّت بها رأسها، وراحت تدور في البيت لا تتجرأ على اختصار مسافاته.. غير أنني أضيف هنا، ومن تصوري طبعاً، أنها صرخت، ورقصت، ثم انكسرت على نفسها، لترجع إلى المواء قطة تكرر اعتياداتها.


قد تكون تلك الحادثة استوقفتني لتشابه بيننا في الانقياد للهواء، وحرية التأمل، وطيّ الطرقات، الذي أسفر عني كَاتِبَة تستسلم للكتابة، واضعة الحدود بنفسها بينها وبين ما عداها من معاول التهديم، والتدمير.


أما القبعة تلك، فإنني أراها مظلة للحماية، حيث كانت المرأة تضع بها حاجزاً بينها وبين الآخرين المتسلسلين من سرّة العبث والظلام، إلى أن سقطت في بؤرة قمع لم تستطع منها التنصل، أما أنا فقد تنصَّلت وتنصلت في عودة إلى الأنثى المتوحشة التي تسكنني، والتي تحدثت عنها الكاتبة في الكتاب الذي أوحى إليَّ بهذا البوح.. تلك الأنثى التي تعود إلى فطرتها وحدسها البكر الذي لو أنها اتبعته لما ضلَّت طريقها، ولمَّا انتثر ما انتثر فيها من الكلاب الضَّالة، والطيور الجارحة.

في معرض الحديث لا بدّ من أن أستذكر جدتي البيضاء الوردية الجميلة التي ابتليت، وحظيت في الوقت نفسه بزوج كان طموحاً إلى أبعد درجة في العلم، والكتابة والتأليف، في زمن ظلمت فيه الأنوثة.

كان جدِّي رجلاً صعب المراس، ربما بسبب حساسيته المرهفة، وانغماسه في العلم، والكتابة، وزواجهما في عمر مبكر جداً، مما أنتج عشرة من الأفراد، إضافة إلى النيّف ممن كانا مسؤولين عنهما، كانت جدتي مكبّاً لتلف الأعصاب، ولكنها كانت في انفساح أفقها بمنتهى الذكاء، والتأقلم مع المعاش، رغم أميتها الكتابية والقرائية، كما جداتنا الحكيمات في ذلك الزمان، وعجائز الأساطير اللواتي تتحدث عنهن المؤلفة، وإلا لما استطاع جدَّي أن يصل إلى ما وصل إليه، لكن المهم هنا كيف كانت جدتي تلك تقابل اضطهاد جدي، وأنانيته، ورفضه أن تزورها الجارات.

منتهى العبقرية حقّاً، والمرونة في الاستسلام إلى الظرف، كانت تغلي فنجانين من القهوة، وتجلس ترتشف أحدهما، وتحادث الآخر باعتباره زائرة، أما ما تفعله للتفريغ عن شحناتها، فكان الرقص، ترقص للمرآة، وتغني، وقد ملأت صدرها بياسمين وفل لا يغادرانها، ثم تنطلق تكمل أوامر سي السيد!

أعتقد أن للوراثة جيناتها في كل شيء، وقد وصلني الكثير منها شخصيّاً، فغدوت بين المزيجين أتهادى، وأرتحل.

بالنسبة للكتاب، لن أذكر عنوانه الآن، لأن في الحديث فيضاً، وفيضاناً.