السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

أحلام مُؤجَّلة.. وصَيف بالتقسيط

أحلام مُؤجَّلة.. وصَيف بالتقسيط
لا أذكر من سنتي الأولى في المدرسة سوى حدثين: الأول عندما آخذني جدي ذات صباح وهو يمسكني بيد، ويمسك بيده الثانية محفظتي وعصاه.

وصلنا إلى باب المدرسة سلّمني يداً بيد إلى مديرها، وهو يؤكد له:

- هذا ابنكم.. أوصيكم به خيراً.


كان هذا أول يوم لي في المدرسة، أما الحدث الثاني فقد كان في اليوم الأخير من السنة الدراسية، حيث نظّمت المدرسة حفلاً كبيراً على شرف المتوّجين بشهادة التعليم الابتدائي!.. كأنني أشاهد الصورة الآن، جمع من الأساتذة، وجمهور غفير من التلاميذ-بل قل الطلبة!، ومن أولياء الأمور والمدعوين، وطاولات مغطاة بقطع من قماش مطرّزة، عليها عدد من الصّحون والأكواب والزجاجات.


انتهى الحفل بتوزيع الجوائز وشهادات التقدير.. انتهى الحفل وبقيت مشدوداً إلى المنظر، متسمرّاً في المكان، لولا أن سحبتني عمتي، وكانت من المتفوقات والمكرّمات في الحفل، وهي تهمس في أدني:

- تعالَ.. من اليوم نحن في عطلة، إنه الصيف، إنها الإجازة الصيفية».

لم أكن أرغب فيما سمعته، وكانت عمتي تجرّني بلطف:

- هيا، يكفي سنعود في الفصل الدراسي المقبل.

لقد تعودت على المدرسة وعلى رفقتي، وعلى أجواء القسم، وعلى ابتسامة أسْتَاذَتي وهي تسلّمني علبة الشوكولاتة، بعد أن تفوَّقْتُ في حفظ جدول الضرب، أو في كتابة جملة صحيحة بخط جميل، وبعد أن تعودت على الاندفاع رفقة زملائي وقت الاستراحة نحو السّاحة، لنملأها ضجيجاً، بالغناء أو الجري أو الاختفاء خلف شجرة أو جدار، في لعبتنا المفضلة «الغميضة». سلّمت في الأخير يدي لعمتي، واستسلمت من يومها لفصل يسمى، فصل الصيف.

ارتبط الصيف في مخيلتي بأنه فصل الأعراس، وكانت الأسر والعائلات تتعاون على التحضير للحفل بأيام وأسابيع، حيث تجتمع النّسوة في دار أهل العريس لإعداد مادة الطّبق الرئيسي وهي «الكسكسي»، والتدريب أو القيام ببروفات للأغاني التي سترددها في يوم المناسبة، أما الرّجال فيتهيؤون للحدث بشراء كبش يسلّم ذبيحة كاملة إلى صاحب العُرْس، فضْلاً عن كمية من المال تسلّم له يوم العرس تسمى «العون»، وهي إحدى العادات الراسخة للتّعاون والتعاضد الاجتماعي في ذلك الوقت.

وللصيف أيضاً في مخيلتي صورة أنه فصل عودة المهاجرين وعوائلهم من فرنسا بسياراتهم الجميلة، المحمّلة بسلع ومقتنيات الإجازة، مرفوقين بأبنائهم، الذين يتحدثون اللغة العربية بالكاد، فينطقون القاف كافاً، والخاء حاءً، فبدل كلمة «نقول» يقولون «نكول»، وبدل كلمة «خبز» يقولون «حبز»، وهكذا مع عدد من الكلمات.

وفي عهد الشباب الذي صادف المرحلة الجامعية، ارتبط الصيف في مخيلتي بالبحر والسّفر، حيث كنا ننتظر الإجازة للسّفر خارج الوطن.

كانت وجهتنا المفضلة في ذلك الوقت فرنسا لقربها الجغرافي، ولعلاقات القرابة التي تربط عدداً كبيراً من الجزائريين بجاليتهم في هذا البلد، فكانت مناسبة لزيارة الأقارب وقضاء أيام أو أسابيع عندهم واقتصاد ثمن الفندق والإقامة.

وقد كنا نعدّ لهذه السّفرية فنغادر محمّلين بأنواع من الألبسة التقليدية والمنتجات والمأكولات المحلّية، يتقدمها الكسكسي وعراجين تمور «دقلة نور» الذائعة الصيت، ونعود في نهاية السفرية محمّلين أيضاً بالألبسة والإلكترونيات والعطور، وأكياس الحلوى والشوكولاتة.

كان أيضاً الصيف في هذه المرحلة يعني البحر، إْذ نُواظب على الذهاب إليه يومياً، حيث نستمتع بأشعة الشمس، ونمارس هوايتنا من سباحة ولعب وتجوال على الشاطئ.

وللصيف أخيراً صورة مملّة ومنفّرة، هي حاضرة الآن، بعد أن بسطت جائحة كورونا أجنحتها، وكتمت أنفاس الخلق، وعزلتهم في حجر صحي، وكممت أفواههم، وأضحى التباعد بديلاً عن تدانيهم، واختفت لدى العديد من البشر تلك الصور الجميلة للصيف الذي كان يعنى الانطلاق والسياحة في أرض الله، فقد ضاقت الأرض بما رحبت، فتشابهت الفصول، ولم يعد الكثير يترقب الفصل، للسفر أو حضور أعراس، أو الذهاب للبحر.. إنه باختصار فصل ليس كسابق الفصول.

أجل، يطلُّ علينا الصيف للعام الثاني، حزيناً كئيباً، متثاقلاً، لم يعد للفصل طعم، لا البحر أزرق كما كان، ولا سماء صافية كما كانت، فالشمس تبدو في السماء، صفراء عاصبة الجبين.

صيف يعود إلينا للعام الثاني مكبّلاً، مقيّداً، متثاقلاً، ونحن بالكاد نحاول أن نهرّب إليه بعضاً من لحظات فصول الصيف السابقة.. إنه فصل أحلام مؤجلة، إنه صيف بالتقسيط.