الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

أيها المحصور بين مستودعين.. مُتْ واعياً

أيها المحصور بين مستودعين.. مُتْ واعياً
فئة ما لا يدري بها أحد، هي من مفرزات الحروب الجهنمية الأهلية، أو تلك المصنّعة من أكابر العالم، تلك هي الفئة التي تقع بين بين، وهي في منزلقها الشيخوخي الكهلي، اللامسمى، إن صح التعبير!

فئة لم تقضِ حياتها عالة، ولا عاطلة عن العمل، واكتنزت من الخبرات ما اكتنزت، غير أنها، وهي تركل غصباً إلى مستودعها الأخير تلّوح بأكفها مستنجدة، ولا من منجد أو مغيث!

العالم المتسلط ـ المدعي التحضر ـ مغاير لما سواه من العوالم والمجتمعات، ولكنه تجاه مصالحه، وامتيازاته طاحونة ترْحِي من الحبّ ما تراه في منظارها يابساً، وتجرش من تجرش، وليس في مخيلتها موضع اطمئنان لذاك المناضل الذي ناضل بشبابه وبعطائه، وغدا شريداً بلا مأوى، ولا حتى أرض يستكين تقبله، أو يتكئ عليها.


عالم متحضر شعاراته زائفة، وعالم يقلد المتحضر، ويتبنى شعاراته، لا تجد فيه من ينظر إلى ذلك المسن، وإن بان بكامل صحته، ولديه الكثير ليعطي، ليبقى ذلك المخلوق تتلقفه الدوامات، وتتلاعب بأمانه الأهواء، والتغييبات، فلا هو يعرف الاستكانة إلى ما تبقّى له من العمر، ولا هو يعرف الطريق إلى الثرى الذي سيكون مهده الحنون.


الحرب السورية البغيضة العاجزة تجاه كل شيء، يحمل أبناؤها العجز تجاه أي شيء يخصهم، فلا من غادر بجسده استطاع أن يستقر به في مكان، ولا من بقي يعيش سقط المتاع يعلن عن استقرار ما.

من مقاييس الدول المتحضرة تعاملها مع المسنين، وأنها لا تنعت مستهينة بالعاجز من يعطي حتى لو كان تعدى الستين، تعدادها ليس رقماً، بل تعدادها العطاء والقدرة عليه، تحت أي شكل وإن كان مبسّطاً.

يحضرني ثمانيني التقيت به في إحدى صالات بيع الأثاث المنزلي في سيدني، كان مهاجراً إلى أستراليا إثر تعرض منزله، وما امتلك خلال رحلة حياته، للنهب من قطاع طرق، حقيقة لم أعد أذكر اسم وطن ذاك المسن، لكني لا أزال أذكر انبهاري بتصميمه على العمل ليحيا بكرامة، وكي لا ينتهي قاعداً.

أما دول الاحتواء تلك التي احتوت المنفيين الذين لجؤوا إليها من سوريا والعراق، ومختلف البقاع المنكوبة، فلا أزال أذكر المعاملة التي سهلت لهم الانتساب إلى الأرض الجديدة، والحث على العمل مساوية بهم سكان الوطن أنفسهم.

هناك حيث لا فرق بين شاب ومسنّ سوى بما يعطي، والدولة الأسترالية تعتزّ بما يقدمه المتطوعون إلى المجتمع الأسترالي من عمل بلا أجر، ويعتبرونه انخراطاً مهم الحضور في المجتمع، يحسب لهم في تقاعدهم الأخير، وهي تشجع من يطلبون المساعدة على العمل حتى وإن كانوا في حالة صحية سيئة.

هي بالطبع لا تتخلى عنهم بالدعم المادي، لكنها في الوقت نفسه تحثهم على العمل كي يشعروا بأنهم أحياء، لا موتى بانتظار انكسار القبعة!

أيها المحصور بين مستودَعين، قلبي معك، تنقبّ، وتعرض مقدراتك، وليس من مبالٍ بك، حتى لو لم تنتظر أجراً.

أيها المتشرد، الذي يعيش دوامة الضياع والقهر والاستلاب، لا يزال الكثير، والكثير أمام الزائفين كي يقتنعوا بأنه من حق الإنسان تحت أية مظلة أن يحيا، ما دام قدّم، ويقدم..

مت قاعداً، مت منفياً، مت واعياً، مت واهماً، مت مغرّباً، مت بكامل قواك العقلية والجسدية.. سيان.

تلك الضريبة التي عليك أن تدفعها ما دمت استطعت حتى هذا العمر أن تحافظ على ما وهبته في حال جيدة.. عليك أن تموت، وكفى!