الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

عناقيد من الأمل..

عناقيد من الأمل..
صبحة الراشدي كاتبة ـ الإمارات

قيل ما قيل عن حاتم الطَّائي، فكان مِن أشهر مَن عُرِف عند العرب بالجُود والكَرَم حتى صار مضرب المثل في ذلك.

قالت النوار امرأته: أصابتنا سنة اقشعرَّت لها الأرض، واغبرَّ أفق السَّماء، وراحت الإبل حدباً حدابير، وضنَّت المراضع عن أولادها فما تَبِضُّ بقطرة، وجَلَّفَت السَّنَة المال، وأيقنَّا أنَّه الهلاك. فوالله إنِّي لفي ليلة صَنْبر بعيدة ما بين الطَّرفين، إذ تضاغى أصيبيتنا مِن الجوع، عبدالله وعدي وسَفَّانة، فقام حاتم إلى الصبيَّين، وقمت إلى الصبيَّة، فوالله ما سكنوا إلَّا بعد هدأة مِن اللَّيل، ثمَّ ناموا ونمت أنا معه، وأقبل يعلِّلني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلمَّا تهوَّرت النُّجوم إذا شيء قد رفع كِسْر البيت.


فقال: مَن هذا؟ فولَّى ثمَّ عاد، فقال: مَن هذا؟ فولَّى ثمَّ عاد في آخر اللَّيل، فقال: مَن هذا؟ فقالت: جارتك فلانة، أتيتك مِن عند أصيبية يتعاوون عواء الذِّئاب مِن الجوع، فما وجدت معوَّلاً إلَّا عليك يا أبا عدي، فقال: والله لأشبعنَّهم، فقلت: مِن أين؟ قال: لا عليك، فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإيَّاهم، فأقبلت المرأة تحمل ابنين ويمشي جانبيها أربعة، كأنَّها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمديته، فخر، ثمَّ كشطه، ودفع المدية إلى المرأة، فقال: شأنك (الآن)، فاجتمعنا على اللَّحم، فقال: سوأة! أتأكلون دون الصِّرم؟!، ثمَّ جعل يأتيهم بيتاً بيتاً ويقول؛ هبُّوا أيُّها القوم، عليكم بالنَّار، فاجتمعوا، والْتفع بثوبه ناحيةً ينظر إلينا، لا والله ما ذاق منه مُزْعَة، وإنَّه لأحوج إليه منَّا، فأصبحنا وما على الأرض مِن الفرس، إلَّا عظم أو حافر، فعذلته على ذلك، فأنشأ حاتم يقول:


مَهلاً نَوارُ أَقِلّي اللَومَ وَالعَذَلَ

وَلا تَقولي لِشَيءٍ فاتَ ما فَعَلا

وَلا تَقولي لِمالٍ كُنتُ مُهلِكَهُ

مَهلاً وَإِن كُنتُ أُعطي الجِنَّ وَالخَبلا

يَرى البَخيلُ سَبيلَ المالِ واحِدَةً

إِنَّ الجَوادَ يَرى في مالِهِ سُبُلا

لم يقف التاريخ على تلكَ الأسماء بل دوّن قصصاً لا ينساها الزمان، فذلك الرجل الذي لا يقل كرماً عن تلك الأسماء التي سجلها التاريخ لطالما رأيت فيها ذلك الكرم الذي يفوق حاتم الطائي في كرمه منذُ نعومة أضافري!

لا زلت أتذكر تزاحم المركبات أمام بيتي، أتسلل كل ليلة من بينهم لأستطيع الدخول إلى مخدعي.. يتَدَافَعُ كل منهم إليه، فكل من يدركه الهم ويشغل باله ما يؤَرقُ فكره فزع ولجأَ إِليه لحمايته!

فكان دائماً.. ما من مستغيثُ عضل بِه الأمر يلجأ إليه إلا وكان له بقدرة الله حَل لشَكواه، إلى أن أطبق صيتُه الآفاق فما من ملتجئ إليه إلا وقال له: « لا تحمِّل نفسك مؤونة النظر فنحن بإذن الله أهل لها!».

حمَل على نفسه، وشدّ عليها شدّة منكرة حتى يفرج الغم والكرب عنه بإذن الله فيذهبه ويكشفه، فلا يُطبق الكرى أجفانَه حتى يفرج الحبل عقدته، يغادر ضيفه بعد أن طرَح عنه الهمَّ و ثلِجت نفسُه وحلت بقلبه الطمأنينة ولازمته السكينة..

تلك اليد الخفية عن الأنظار لا يعرف سِرها ولا أسبابها غير الله عز وجل، يضع في يده عناقيد من الأمل كل ما اسْتصعب الأمر ملّ القوسَ وملّ ذلك الثوبَ بقدرة الله..

« أبي كان وما زال المدرسة التي أَتعلم ويتعلم منها كل من سار على طريقه ونهج نهجه أو اقتدى به واحتذى بأسلوبه.. رجل ملِمّ، مكرم للناسِ، له من الفطْنة ما تذهل العقل، له مَعَارِف كثيرة أكرمهُ الله بها، مطلِعٌ.. هذي هي سمات الشجعان، وكما قال أبوالطيب المتنبي:

الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني

فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكان.