الجمعة - 20 سبتمبر 2024
الجمعة - 20 سبتمبر 2024

ليتني مت قبل هذا

أستذكر الآن لحظاتٍ فضلتُ فيها الموت على أن أعيشها بكل ما فيها من معاناةٍ قاسيةٍ تتغذى على حطام صبري وفراغ أملي وقلة الحيلة الموهومة. ولكنني الآن أرقبها من موقعي هذا من الحاضر بعجبٍ لذيذٍ بعد أن تحولت ماضياً منسياً كثيراً ومستذكراً في نادر الأحيان. لقد مرت تلك اللحظات وانقضت، وما زلت كما أراني الآن .. أعيش! لا تظل المأساةُ مأساةً إلى الأبد، وليست أي مصيبةٍ خالدة، ولم يكتب للمعاناة أن تكون حبيسة زمنٍ لا يتحرك. كل هذا أدركته جيداً مع الأيام، ولكن برغم تلك الحقائق فلنكن أيضاً واقعيين .. إذ ليس الجميع قادراً على عدم التفكير ببلواه والتهوين على نفسه بإقناعها بأن ما يمر به من ضيقٍ هو لحظاتٌ عابرةٌ ستنقضي، حيث ينتظرها خط نهايةٍ في طريق الزمن. ففي نهاية المطاف للمصائب أحجامٌ مختلفةٌ ومستوياتٌ متفاوتةٌ وامتداداتٌ متغايرة. كما للبشر قدراتٌ متفاوتةٌ في التحمل والصبر. ولكن أيضاً برغم ذلك يبقى جزءٌ من المنطق يقول إنه لا يجب على المرء أن يأسر نفسه في سجون تلك الدائرة الضيقة من الهم مهما كان ثقل ذلك الهم الذي يحمله، وأن عليه أن يحفر لنفسه ثقباً يتسلل منه ضوءٌ من التطلع والرجاء والتمني والأمل في جدار عزلة العقل والقلب عما حولهما من حياة غزيرة! .. حتى في أحلك لحظات الرغبة في الموت. وإلى جانب كل ذلك على المبتلى بمثل تلك الأحوال العنيفة أن يدرك حاجته إلى شيءٍ من الفعل والحركة، إذ لا تتغير الأمور لحالها دائماً، بل تحتاج النتيجة إلى سببٍ يحفزها للظهور، والنتيجة المرغوبة في حالةٍ كهذه هي تبدل الوضع من سيئ إلى أفضل. وبالعودة إلى نفسي فإنني أبدو سعيداً الآن في حاضري الذي يغدو ماضياً في كل ثانيةٍ تركض من ثوانيه. أبدو سعيداً وأعلم في الوقت نفسه أنها سعادةٌ موقوتةٌ أيضاً كالأحزان وكأي شعورٍ آخر من المشاعر البشرية. ولكنني أحيا سعيداً وهذا يكفي. فإدراك أن السعادة لن تدوم ليس مدعاةً للتشاؤم بقدر ما هو مدعاةٌ لاستغلال كل لحظةٍ من لحظاتها، وتجرع نكهتها المميزة والمختلفة عن بقية المشاعر البشرية. وما عجبي إلا من شيءٍ واحدٍ فقط في هذا الأمر كله، ألا وهو علمي أنني حين أحزن وتضيق بي الحياة من جديدٍ فإن ذلك لن يحدث فقط لوحده، بل سيجتذب عقلي كل ذكريات المعاناة والألم السابقة التي اجترعتها وسيلقي بها على فكري ليزيد وهج القلق والعذاب داخل ضميري الملتهب، ولتصبح معه مهمة التهوين عن النفس وتعليلها بالآمال شاقةً أكثر. ومع ذلك فالأمر أهون مما قد يتصوره أحدهم، رغم ما قد يبدو عليه الأمر من تيه وتناقض، إذ هي فقط فكرةٌ صغيرةٌ تلك التي يحتاج لأن يزرعها في عقله، بذرتها عبارةٌ صغيرة تقول «بغض النظر عما يدور في خلدك وما يحدث لك، كل هذا سينقضي، والأهم أنك ستنسى!». هنا بالذات أذكرك بما حدث معي. لقد مرت اللحظات التي تمنيت فيها الموت، وما زلت كما أراني الآن .. أعيش!