2018-05-11
أحب المطبخ جداً، ذات الحب الذي ينتابني تجاه معارض الفن التشكيلي، تجاه جدرانه الخاصة والمغايرة لبقية الجدران، تلك الجدران التي تمتزج بمضمون اللوحة المعلقة عليها فتتأنسن وتخرج من موت أسمنتها.
المطبخ أيضاً يعبق بالإنسان، بجوعه، بامتلائه، بعطشه، بارتوائه.
جدرانه حميمة إلى قلبي، نافذته التي لطالما ودعت منها الشمس .. لتلك النافذة معنى حميم لدي.
أعشق رائحة البصل في الزيت، إنها رائحة أتمنى لو أحيلها عطراً.
لا ترضيني النكهات العادية التي تعدها أمي، لذا أخلص في صناعة نكهتي الخاصة ورائحتي. أتفنن في صف الخيار والطماطم والخس، الأحمر والأخضر والأخضر الفاتح، إنها ألوان ترضي جوع العين قبل أن ترضي جوع الأمعاء، أتأمل هذه الشرائح المصفوفة بشكل هندسي يعطي لكل شريحة خصوصيتها وفردانيتها على الطبق.
أملأ كأسي الزجاجية بالماء البارد. أضع كرسياً واحداً إلى جوار الطاولة من ناحية اليسار. أدعو نفسي لهذا الموعد الخاص بصحبة هذه النكهات المحببة متأملاً قمراً بهياً من النافذة.
ذات مرة زرت المطبخ عند الثانية صباحاً، كان الكرسي جالساً بهدوء وراحة بال إلى جوار الطاولة، ارتسم ظلاهما على الجدار بينما دفقة ضوء تقسم الطاولة إلى نصفين، تأملت هذا المشهد الحي طويلاً، تأملت هذه الحياة غير المعلن عنها والغنية بالحركة.
ابتسمت في وجههما، ثم قلت: انتظراني قليلاً، سأحضر الهاتف لألتقط لكما صورة.
خذلتني كاميرا الهاتف فاعتذرت للكرسي عن رداءتها، ربتّ على كتفه ثم قلت: أنتما تعرفان أنكما في عيني أجمل من أي صورة في العالم.
لم أرد أن أنتهك خصوصيتهما أكثر من ذلك.
فكرت أن أكتب قصة عن هذا الأمر، لكنني عجزت. حاولت استخدام عين الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر لاستنطاق الكينونة في الأشياء، لكنني أيضاً فشلت.
قبل فترة وعلى الطاولة ذاتها شاركني تناول الطعام أحد الصغار .. علّمته تناول الطعام بالشوكة، حدثته عن ثقافة الأكل، حتى إنني كنت أردد على سمعه عبارة: الأكل ثقافة .. الأكل شنو يا كامل؟
يرد علي: الأكل «تقافة».
إنني حينما أدخل المطبخ، أمارس فردانيتي في ابتكار النكهات، إذ إن النكهة هي التجريد خلف التجسيد، هي المعنى خلف محاولته.
أقول لنفسي بعد أن أغسل الأطباق وإن كانت الوالدة تبتسم بحنان وهي تراني في هذا الطقس الحميم لنفسي وتفضل أن أترك أمر غسل الأواني للعاملة، أقول لنفسي: فليكن ثمة معنى لكل شيء في حياتنا، حتى إعداد الطعام لا بد أن يكون له معناه الخاص.
وإن للحياة سراً اسمه الاستغراق، تماماً مثلما تفعل كثافة مهولة في مساحة لا تتعدى المليمتر.