2018-05-18
لا يحب المرء أن يظهر غير عارف ولا أن يشعر بوجوده في موضع جهل. وهذه حقيقة نفسية لا ينفك منها إلا القليل. ومن هنا يظهر أن في الإنسان ميلاً إلى تجاوز حدود ما هو مُعطى، أو خروجه عن حدود معارفه.
والانتقاد بعض من مظاهر عملية الهروب هذه، إذ لا يسمح كبرياء الإنسان عادةً أن يوقفه موقف المتفرج في القضايا التي تُناقش حوله، فهو لابد أن يضع له قولاً، أو يكون له رأي، أو يُدلي بأي مشاركة حتى لو كانت معرفته لا تتجاوز قشور الموضوع محل النقاش، المهم ألا يحصر نفسه تحت مبدأ «لا أعرف»، على الرغم من متانة هذا المبدأ، إلا إنه لا يلازم الكل، وله فئته الخاصة.
وبحسب الفيلسوف الألماني كانط، فإن العقل البشري خُلق بشكل يؤسف له، فهو على الرغم من ميله الطبيعي إلى معرفة حقائق الأشياء، إلا إن حدود عقله لا تسمح له بذلك، وليس في هذا إنقاص من عملية الخلق نفسها، بل لبيان معضلة الازدواجية بين إرادة الإنسان وحدوده العقلية.
ومن حين إلى حين، نشعر نحن أنفسنا بوجودنا داخل هذه الازدواجية، فمن ناحيةٍ ننساق نحو الميل الطبيعي للمعرفة، ومن ناحيةٍ لا نعرف شيئاً. ولا نجد في المقابل إلا الظهور بمظهر العارف، وحينئذٍ لا بد أن نُرغم أنفسنا في كل قضية متسلحين بسلاح الانتقاد وربما أتينا بالعجائب. ولكن ألا نشعر أننا في حقيقة الأمر إنما نقلل من حق أنفسنا بهذه الصناعة؟ ولعل السؤال هو: هل الانتقاد سمة الأشخاص غير الجاهلين؟ (الذين يحلو لهم لبس أقنعة المعرفة)، أم أن الانتقاد يرمي إلى هدف؟ ثم إذا كان كذلك، هل من الممكن أن نكفّ نحن عن هذه الصناعة؟
لقد أصبح من النادر أن تجد من يقول لك لا أعلم أو ليس لي دراية في هذا الأمر، فالكل عجباً عارف، لقد فات الكثير من هؤلاء أن الانتقاد صناعة عظيمة همها بيان الخلل وإجلاء حقيقة الغامض، لا تزجية الوقت والتلبس بزينة المعرفة مضاهاةً بها من غير هدى أو علم. إننا نشعر بالنقص «خطأ» عندما نقول «لا نعلم» ونشعر بالكمال «خطأ» عندما نرغم أنفسنا في كل شيء، فقد أصبحنا ننتقد للانتقاد نفسه لا لهدفٍ وراءه من توضيح حقٍ غامض أو تجلية مستور.