2018-06-05
الحنين إحساس يحملك قسراً إلى القديم الجميل. فيعمّر مجالس ويجمع أحباباً قدماء، مرتبط كل الارتباط بالماضي .. الجميل منه فقط. أكثر ما يستدعي هذا الشعور هو قسوة الحاضر وما نعايشه، والغربة المخيفة، ولا أعني بذلك غربة الوطن بل غربة النفس عن المألوف.
يشتاق المرء دائماً إلى زمان كان فيه بطل الموقف واللحظة، ويرى أنه كان الوقت الوحيد والمكان الوحيد المأهول بالخير والمسرة. مع مضي الزمن تملأ الرتابة زوايا الحياة وكل ما يحيط بنا، وتغدو الوجوه الجديدة مريبة، والحياة بالرغم من التطور وقربها إلى الكمال تبدو ركيكة لا تستحق كل هذه الزخرفة والاهتمام. ولا يعود الجليس صاحباً ولا المجاور جاراً وبات كل شيء يحمل مذاقاً واحداً. ونرى الماضي بالرغم من بساطته أثرى وأغنى، متفرداً بلذة يفتقدها الناس، يذكر أهل الجيل الأسبق صحبة ذاك الزمان الجميل ويزفرون بحرقة «راحوا الطيبين».
من هم الطيبون وأين مضوا؟ ولمَ نعدّ ذاك الزمان زمان الطيبين؟ وهل يملك أبناء هذا الجيل ما لا يراه أهل الجيل الأسبق أم أن ذاك الزمان فعلاً كان ألذ وأرقى من أن يعاد؟ ولِمَ أرى في زماني ما لا يراه أبي؟ وهل إذا تقدم بي العمر وعدوت مع السنين سأتذمر يوماً وأقول «راحوا الطيبين»؟ أم هي «فرحة المرة الأولى» دائماً أجمل؟
كمذاق الشوكولاتة للمرة الأولى حتى تصبح نوعاً من الحلوى ثم نتخلى عنها. كفرحة أول طفل حتى يتواتر بعده الأشقاء ويغدو مسؤولية على العاتق، كنشوة السقوط في الحب للمرة الأولى وما يتلوه من أحداث قد تدعوك للفرحة أو يخنقك اليأس. فرحة الوظيفة الأولى والشعور بالانتصار، فرحة المرة الأولى وما ألذها.
لربما هو عامل الدهشة! الدهشة والحماس لخوض الحياة للمرة الأولى الغوص في المجهول والنظر إلى المستقبل متعلقاً بحبال الطموح. وتغرينا قصص الانتصارات وتلهمنا الأساطير. لربما روحك كانت أجمل مما هي عليه الآن؛ ما يدعوك لترى ذاك الزمان مبهجاً وملوناً. ولعل كونك غراً بريئاً؛ غير محيط بما يسرّه الناس وما تخفيه لك الحياة من حولك في ذلك الوقت يدفعك لترى كل شيء بعين نفسك؛ «طيباً».
ولعلنا حين نكبر وتسعفنا خبراتنا على مر الوقت لأن نرى الأمور على حقيقتها (البشعة) أحياناً، ونكشف خبايا الأمور التي ظننا في أوج العنفوان أننا نعرفها، ونتعلم في كثير من المحطات أن نغض الطرف لنعين المركب أن تسير. ولا نعود نرى الخير الذي ألفنا أن نعيشه. نفقد المتعة ونكل سيناريوهات الحياة المتكررة ولا نعود نلقي بالاً لما كان يفجر الدهشة فينا. بل يغدو من المدهش أن تثير الأيام التفاتنا. ويصبح ما يستدعينا للبقاء قليلاً، ليلعب بنا الحنين ونبكي على زمان شهد انتصاراتنا ثم ننعي ذاك الزمان زمان الطيبين. ليس لأن هذا الزمان أسوأ؛ بل لأننا كنا طيبين.
كل الاحتمالات واردة لذا يعود السؤال لينغز خاصرتي من جديد؛ هل راح الطيبون فعلاً؟