السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

نبراس أبوظبي

أشعل النبراس في أبوظبي وصعدت المصابيح إلى أن عانقت السحاب، لحظات امتزاج .. توحدت فيها روحان واختلط جسمان تآلف وتحالف فيها قلبان معاً في صبارة الشتاء مع تبدد وتشتت ضوء المصابيح كأجرام تتلألأ بين النجوم. من هنا كل عام تبدأ أجمل سنين عشناها وسنعيشها ونذكرها كل عام بإذن الله. درجت نحوها وخطت قدماي مسافةً طويلةً في رمالها، وفي كل مرة أتنحى جانباً لأحتضن هواءها وأضمها إلى صدري، وأتنفس الصعداء، وأخرج نفساً طويلاً .. أتلذذ بتغلغل ذراتها بين جوانحي، ودائماً على أهبة الاستعداد، نتهيأ ونترقب شعوراً يستولي علينا، أحاسيس تقطع الأنفاس، وما هي إلا لحظات وإذا بهواء عليل، نسيم معطر، اعتدلت الرياح وهبت هبةً لينة معتدلة معطرة بين جوارحي، وكأنما طير يلوح بجناحيه، ألجم فؤادي وكأنني فارغة الفؤاد على أطراف نهر عجاج يسمع لمائه عجيج يتراقص بأمواجه الزرقاء في ليلة قارة، أولى ليالي ديسمبر على ضفاف النهر وانعكاس ضوء الإكليل الذي يطوق عنق السماء، ها هو القمر يبهر النجوم ليغمرنا بضيائه، وليزين سواحلها الخضراء بجماله المعتاد. دهشت وطار صوابي كما تطير البوم من أوكارها، تحيرت، مناظر تذهل العقول، توسطت بحارها، استغرقتني أسرارها، وأبحرت بأحلامي على رمالها إلى تلك الطفولة التي عشناها، إلى تلك الرمال الحمراء الممتدة، المتصلة بعضها على بعض، تبدو لنا من على البعد إذا نظرنا إليها وكأنها سلاسل من الذهب، في كل ليلة قبل المغيب أعتلي قمتها، وأرتفع لائذة بالصمت ويتسلل إلى غمدي هواء منعش وهبوب لينة وأسرح وأخرج ما في صدري من الحنين والشوق إلى تلك الديار .. لا أخشى لومة لائم، فهي عشقي ومسقط رأسي، عشق تدفق من حنايا الماضي شعوراً استصعب علينا وصفه. كل ليلة عند دلوك الشمس وميلانها للغروب نجد على جانبها زامل من الإبل ونجد أنثى الإبل بعد أن تجاوزت الخامسة وزاد جمالها .. أقبلت معشوقات أجدادي «المجاهـيـم» نحو الحوض وعلى مرأى ومسمع من الناس، يسمع لها حنين، تتدفق مسرعةً دون أن تتشرذم أو تضل مرتعها بعد أن أعطشها وأظمأها السير الطويل، يسري لجامها على مبتغاها، قضى سواد الليل على الأقدام رويداً رويداً، دبت السكينة والطمأنينة، هو الله الخالق الباري الذي ينزل السكينة على عباده. من هنا يسعى كل منا ليحتطب الحطب، ويضم بعضها إلى بعض لشب النار ويزيدها اشتعالاً على تجمع الصغير قبل الكبير في ليلة شديدة البرودة، يتدثر كل منا تحت لحافه من دثار البرد، يغمس لنا مع الخبز لبناً حلو المذاق، ومن أجمل صنيعهم، وما لا يمكن الغفلة عنه أو نسيانه عندما تراود أجفاني ويغلبها النعاس ويثقلها الكرى، تطبق على مسامعي أصوات تغني طرباً وترنماً بالكلام الموزون والمعاني التي تحفر في قلوبنا على مر السنين. فإن كان هناك منا من يعتاده الهم ويعاوده مرةً بعد مرة، يعدل ويميل عنه بعد أن يشارك بها الجميع ويأخذ ما يطيب خاطره من أصحاب الأعين النافذة وينهي بها ضجيجه الداخلي. ومن بين الساحلين مئذنتان تجمعهما مآذن صغيرة، ومن بينها مئذنة تعم أرجاء المدينة ملونة كأنما هناك من ينسج الحرير الأبيض المطرز بلون الذهب، والمزين بالجواهر الملونة، تميزت بصنع صانع له من الهندسة خيال ما يبهر. هذه هي مدينتي «أبوظبي»، وهذا هو عبق رائحتها، من هنا كانت طفولتنا، ومن هنا بزغ أول حلمنا، يصنع الياقوت من أحجارها ويؤخذ الماس من ترابها، فهي «هوى لاعج» وعشق لا مثيل له.