الأربعاء - 14 مايو 2025
الأربعاء - 14 مايو 2025

ترياق

سألتني إحدى الكاتبات الناشئات ذات مرة، كيف أكتب نصاً ساخراً أو بالأحرى كيف أصبح كاتبة ساخرة؟ أجبتها بأن السخرية لا تُلقّن، فالساخر يولد ساخراً بالفطرة، وحينما تصهره الحياة بين مدها وجزرها، فإما أن تصنع منه ساخراً كبيراً أو مهادناً بائساً. فالكُتّاب الساخرون في وطننا العربي يمكن عدّهم على أصابع اليد، أشهرهم في التاريخ أبوالعتاهية والجاحظ، ومن المعاصرين أشهرهم عميد الكُتّاب الساخرين ـ الساخر الأخير أحمد رجب، الذي رحل عنا قبل بضعة أعوام، والأديب محمد الماغوط. أما عالمياً، فلا أحد ينكر السخرية اللاذعة لشيخ الساخرين الكاتب والمسرحي الأيرلندي برنارد شو، ولكن هناك شعوباً أيضاً عُرفت بحسها الفكاهي الساخر، كالمصريين، بقدرتهم الفائقة على توليف النكات المستوحاة من تفاصيل يومياتهم المربكة وغالباً من «يولفّها» هم الطبقات الكادحة. في عالمنا العربي، ما زال هناك خلط لدى العامة بين الحس الساخر والكوميديا وأسلوب التهريج، وشتّان ما بينهم، فالسخرية تبقى دوافعها تنزف في الذات الساخرة بعكس التهريج تماماً، ولربما كان للمسرح التجاري العربي دور في ترسيخ هذا اللبس لدى المتلقي، بخلطه للكثير من المفاهيم والقيم الإنسانية والأخلاقية. فالسخرية، هي الكوميديا السوداء التي تعلمك البكاء بأسلوب مموه، كحبة الدواء المُرّة المغلفة بطبقة ملونة من السكر؛ هي باختصار: فن مراقصة الوجع والتنطيط فوقه متى ما عجزنا عن حمله. وأمام هذا الخراب، الذي يشهده العالم، الذاهب بعيداً في حماقاته وخساراته، ما عاد يثير الغضب فينا بقدر ما يستحّث سخريتنا منه. فوحدها السخرية ستوهمك بأن الحياة ما زالت صالحة للعيش، وتتسع الجميع، وأن الحب حقيقة، وأن الخير طرقه سالكة وسيلتقي عليها جميع البشر، وأن هناك دوماً من يُخبئ لك شيئاً جميلاً في قلبه، وما في صدرك ورأسك هي ظنون وأوهام أو أضغاث أحلام، وأن الحياة ولكي تصبح ممكنة، تحتاج إلى فرح قليل والكثير الكثير من السخرية. فالسخرية خبز المعدمين وزاد اليائسين .. أولئك القابعون خارج خط تماس الفرح من هيأتهم أقدارهم من قبل أن يُطلقوا صرخة الحياة، لحياة لم ولن تمنحهم أكثر من ترياق سخرية؛ كي يواجهوا خيباتها، بضحكة ماكرة سوداء، نصفها دمع ونصفها الآخر من اللا شيء .. لا شيء!. أمّا أنا؛ فسخريتي تكفلت بأوجاعي. [email protected]