2014-09-26
تمثل الحملة الشرسة على الشاعر بودلير من قبل معاصريه حين صدر ديوانه «أزهار الشر» مثالاً صارخاً على أن الإبداع ربما لم ينتبه له إلا حين يكون الموت قد طوى جسد الشاعر، وظلت موهبته تتناقلها الأجيال باعتزاز، وتكتب عنها الدراسات النقدية، وتدرس في الجامعات. هناك الكثير في سيرة الشاعر الفرنسي (شارل بودلير -1821-1867) وحياته القصيرة المنهكة بشتى الأمراض والعلل والتشرد والفوضى وغرابة أطوار صاحبها، والتي قال عنها «لقد أحسست منذ طفولتي بإحساسين متناقضين بنفور من الحياة، وبنشوة من الحياة».
من فيض هذا الإحساس المزدوج والمتناقض خرجت قصائد شاعر الحداثة في الشعر العالمي، ويعتقد الكثير أن مجده الشعري مستمد من ديوانه الشهير «أزهار الشر»، والذي جاء يوم صدوره في الخامس والعشرين من يونيو 1857 كحدث استثنائي في طريقة استقباله من خلال الردود العنيفة الغاضبة والمستهجنة لتلك الأشعار، ورأى البعض أن قصائد الديوان مستشفى مفتوح لمن أصابته لوثه في عقله، وأن تلك الأزهار لا يشم منها سوى الروائح النتنة وأنها ذابلة، وفيها فقر فكري مدقع، وانتقد آخرون غرابة الصور الشعرية، واعتبروها عسيرة الفهم لأغلب القراء، بل وشمل ذلك كبار النقاد من أمثال الناقد «سانت بيف» الذي لم يفطن إلى أن تلك القصائد امتلكت وعياً متقدماً في ظل الهيمنة السائدة للمذهب الرومانسي.
وقد تجلى إبداع بودلير في أن يطلق لخياله الجامح ليسرد مصائبه وهمومه وبغضه وضجره في قصائد مثل «النبيذ القاتل، موت المساكين، القبر، نشيد الجمال، تجاوبات»، واصفاً ديوانه بأنه مثل له «كل بغض وتقزز من عالم قاسٍ وآثم». هذه المعركة المباغتة خلقت أجواءها المرعبة، لتغرق بودلير في موجة من الكآبة، وخصوصاً أن الحملة انطلقت ضده تحت لافتة تتهم بودلير بأن إنتاجه الأدبي يصدر من وحي شيطاني.
يقود المعركة في الظل وزير الداخلية (بيو)، والذي منع نشر أي مقاله تدافع عن المزايا الفنية والأخلاقية لأزهار الشر، ولم يكتفِ بذلك، بل رفع ملفاً إلى القضاء لمحاكمة بودلير والناشر بتهمتي الإساءة إلى الأخلاق الدينية والإساءة إلى الأخلاق العامة. وحدد يوم 25 يونيو 1875 موعداً للجلسة. كانت أياماً تضخم فيه قلقه على قصائده التي كتبها بأناة وصبر، وهي أيضاً الإثبات الحقيقي لشاعريته المميزة ووجوده الأدبي. بودلير المشهور بالتهور والاندفاع الجريء سارع قبل المثول أمام قضاة المحكمة، ليتأمل وجوه القضاة الذين قال عنهم في إحدى رسائله «لن أقول إن بهم وسامة، فهم دميمون إلى حد التقزز، ولا بد أن نفوسهم تشبه وجوههم»، لكن هؤلاء القضاة كان قرارهم هو تبرئة بودلير من التهمتين، والاكتفاء بحذف ست قصائد من الديوان لاحتواء مفرداتها على عبارات تخدش الحياء العام، ومثيرة للغرائز الجنسية، وكذلك الحكم بغرامة مالية.
لقد خرج بودلير من ذلك الجدل العقيم، وهو أكثر تفاؤلاً في مستقبله الشعري الذي سيشق طريقه يوماً ما إلى جمهوره المثقف، والذي سيتلذذ بتلك الأشعار، ويتعرف إلى حجم الألم والمعاناة في باقة الأزهار، خصوصاً أن رسالة الكاتب فيكتور هيجو أحدثت دويها الكبير، وصداها في نفس الشاعر، لترن بأجراسها ملء قلبه «إنك برهنت على أن الفن كالسماء مجاله لا ينتهي». لكن بودلير مثل قصائده لا يريد أن يخرج من هوته السوداء وكآبته، فاستمرت تتلاعب فيه الدنيا فقيراً ومحطم القوى لتزيد من يأسه. والذي وصف بخالق الانتفاضة الجديدة في الشعر هو من أكثر الشعراء الذين نالتهم معاول الإجحاف والإنكار، ولم ينتظر الموت تكريمه، ليضمه إليه سريعاً بلا رجعة .. مات شاعر الألم وفي نفسه حزن من الأحياء.
قاسم محمد مجيد