السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

طائر في وداع أُمِّه

من بين أوراقي تخافتت الأصوات وتهافتت الجدران وتثاقلت الأنفاس وأدمعت العيون وهاجت الأجساد وارتفع النشيج في لحظة اكفهرت فيها الوجوه وارتعشت القلوب، في لحظة تلبدت فيها الغيوم وساد فيها السكون وغلب فيها على النفوس الوجوم، في لحظة تكاثرت علينا الهموم وتجرعنا المر والسموم. في لحظة دار بيننا زمان وأبحرت بيننا العيون وتشنَّجت أطرافنا .. بدأ العد التنازلي على فراقها، ها هي الأرقام أمام عينيّ لا يمكنني نسيانها وكأنني في فيلم سينمائي، بدأ العد التنازلي وكثر الضجيج، وبدأ الاستنفار وكثر الأطباء وأغلقت الستائر، ها نحن تتردد أنفاسنا ويتردَّد البكاء في صدورنا. الأعين جاحظة إلى النوافذ، فتحت الستائر طأطأت الرؤوس وهاجت الأصوات «إنا لله وإنا إليه راجعون». في تلك اللحظة، تضرعنا ورفعنا أكف الضراعة إلى السماء بخشوعٍ سائلين المولى عز وجل أن يستجيب لدعائنا (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه). فتحت الأبواب على مصراعيها، بلغت القلوب الحناجر ورحل الجميع وساد السكون. دخلنا بأطرافٍ ترتعد، وأيادٍ ترتجف، توجه الجميع إلى قبلة الأنظار وهي بين الأسرة البيضاء وتصاعد الدم في وجوهنا، زاور عنا الأطباء، ليحين وقت الوداع. دخلنا بأقدام لا تطأ الأرض وقلوب وصل مسامعها كعصفور يتخبط بلا مأوى، كطير جريح كُسر جناحاه «أماه أماه ليت الأرواح تفدى ليت العمر يعطى» .. ارتفع النشيج والنحيب وبدأ تلقين أمي: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله‏»‏، ورفعت السبابة «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله‏». كل منا في زاوية من سريرها يحتضن رداءها ويودع ابتسامتها، يودع رائحتها وحضنها الدافئ، كل منا يهيج بعبرات جنونية، كل منا ارتمى إلى أحضانها يقبل قدميها ويشم رائحتها، أجبرنا على الرحيل بأقدام تتباطأ وأعيننا ترجع إلى الوراء، أخذوها من بين أيدينا بلا رحمة لم تعد تحملني قدماي. ألقيت بنفسي إلى الأرض، ربي لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه. أيتها السماء افتحي ستارك وخذيني على طيف جناحك فإني طير جريح سُلبت منه قواه وكسر جناحاه، طار قلبه من بين أضلاعه فأصبحت نبضاته كي تستمر بها الحياة، وداعاً يا أجمل من سكن في القلب، وداعاً يا أجمل قلب وداعاً، يا أغلى من سكن في الروح «أماه أيا قلبي الجريح! أيا عطري المشموم». اللهم اجعل أمي، وجميع أمهات المسلمين، سيدة من سيدات أهل الجنة واجعل الحوض مورداً لها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم‏ شافعاً لها، والسندس لباساً لها والقصور سكناً لها، اللهم آمين. صبحة الراشدي