الخميس - 12 ديسمبر 2024
الخميس - 12 ديسمبر 2024

حقائق أسواق النفط تفضح عجز طهران

تفضح حقائق أسواق النفط عجز مزاعم وتهديدات إيران بقدرتها على إغلاق مضيق هرمز الاستراتيجي أمام الملاحة الدولية وتعطيل الصادرات النفطية للدول الخليجية، والتي أطلقها الرئيس الإيراني حسن روحاني خلال زيارته سويسرا أخيراً. واعتادت إيران في كل أزمة تواجهها التهديد بإغلاق المضيق في وجه الملاحة الدولية، إلا أنها لم تنفذ تهديداتها ولو مرة واحدة لعجزها عن التنفيذ، رغم مزاعم قادة إيران بأن «إغلاق المضيق أسهل من شرب كوب ماء». ورغم أن الحكومة الإيرانية تصر على أن من حقها، بموجب اتفاقية جنيف لعام 1958 بشأن قانون البحار، إغلاق مضيق هرمز الاستراتيجي الذي يمر منه يومياً نحو 17 مليون برميل، أي ما يعادل 20 في المئة من إجمالي الطلب العالمي على النفط، إلا أن هذه المغالطة القانونية المفضوحة لا تصمد أمام المناقشة. وتحاول إيران تصوير إغلاق ممرات الملاحة وتهديد حركة التجارة الدولية بالصواريخ والألغام وتفجير مصافي التكرير وقطع خطوط الأنابيب على أنه نوع من الدفاع الشرعي عن النفس، متجاهلة بنود القانون الدولي التي تحمي حرية الملاحة البحرية وحرية التجارة العالمية وحق المرور العابر للسفن التجارية. ونظرة واحدة إلى الحقائق على أرض الواقع كفيلة بأن تكشف أن إقدام إيران على غلق المضيق نوع من الانتحار ليس فقط سياسياً وعسكرياً وإنما أيضاً اقتصادياً لأن إيران تحتاج استمرار الملاحة في المضيق بقدر ما يحتاجه الآخرون وربما أكثر إلحاحاً. وفي الواقع فإن إيران ذاتها أول المتضررين من إغلاق الممر لأنها تعتمد اعتماداً شبه مطلق على استيراد المنتجات النفطية المصنعة من الخارج لأنها لا تملك القدرة على تصنيعها. وعانت إيران في الماضي من عقوبات نفطية، إلا أن وطأة القبضة الأمريكية هذه المرة ستكون أشد بعد أن قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكل وضوح أنه لن يمنح أي دولة مستوردة للنفط الإيراني استثناء من العقوبات على غرار ما حدث في الجولة الأولى. آسيا تتحرر من القبضة الإيرانية وضع كبار مستوردي النفط الإيراني في آسيا ولاسيما الهند خططاً بديلة لتأمين مصادر واردات بديلة مع بدء سريان العقوبات على إيران مجدداً. وبحسب رئيس شركة البترول الهندية، سنجيف سنغ، فإن السعودية وحدها قادرة على تعويض النقص في أسواق النفط العالمية إذا ما توقفت الصادرات الإيرانية. وبالإضافة إلى ما سبق، فإن تقلص الفجوة السعرية بين سعر خام برنت وخام دبي إلى أقل من ثلاثة دولارات للبرميل يعطي زبائن إيران التقليديين في آسيا مزيداً من الخيارات في أسواق النفط. وفي الواقع فإن أغلبية المستوردين الآسيويين لديهم الآن سلة نفوط متعددة، كما أن معظم مصافي التكرير لديهم قادرة على تكرير أغلبية أنواع النفط حتى لو كانت تحتوي على نسبة كبريت مرتفعة، ما يمنحهم مرونة في اختيار قائمة الموردين. ويزداد الموقف الإيراني صعوبة في ظل تزامن استئناف العقوبات على إيران مجدداً مع تحرك كبرى الدول المستوردة للنفط مثل الصين والهند لتأسيس نادٍ للمستوردين يأخذ على عاتقه مهمة تعويض أي نقص محتمل يتعرض له أعضاء النادي، فضلاً عن السعي للحصول على أسعار شراء تفضيلية لصالح الأعضاء، وهذه الخطوة تترجم نفسها في تحرير أعضاء النادي من قبضة الاعتماد على النفط الإيراني. ونظرة واحدة إلى قائمة عملاء النفط الإيراني تكشف أن الجميع لديه مصادر متنوعة لتعويض الإمدادات الإيرانية. وبحسب معلومات وزارة الطاقة الأمريكية، تتصدر الصين قائمة المستوردين بنحو 24 في المئة من إجمالي الصادرات الإيرانية تليها الهند بنحو 18 في المئة ثم كوريا الجنوبية بنحو 14 في المئة وتركيا تسعة في المئة وإيطاليا سبعة في المئة. نصف الأسطول الإيراني دُمّر في ساعات من الناحية العسكرية لا تستطيع إيران رغم ما تملك من ترسانة عسكرية فرض حصار بحري على السفن حتى في أضيق نقطة منه، والتي تصل إلى 34 ميلاً لأن سفنها وزوارقها البحرية متقادمة وليست بكفء لسفن وزوارق دول المنطقة والدول الغربية. وعلى سبيل المثال، دمرت البحرية الأمريكية في ظرف ساعات قليلة نصف الأسطول الإيراني في اشتباك بينهما وقع في أبريل عام 1988 فيما عرف وقتها باسم بحرب الناقلات. وبحسب دراسة أجرتها جامعة جورج واشنطن عام 2008 حول الأمن الدولي، فإن إيران يمكنها وقف أو تعطيل حركة الملاحة في المضيق لفترة تزيد على شهر واحد فقط، لأن إيران تملك زوارق صغيرة الحجم متقادمة لا يمكنها أن تعترض طريق ناقلات النفط العملاقة ولا يمكنها البقاء في تشكيلات كبيرة في المياه المفتوحة لفترة طويلة. أما مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي، فخفض الفترة التي تستطيع إيران فيها غلق المضيق إلى أسبوعين فقط، وهي فترة أقل من أن تؤثر على أسعار النفط في الأسواق العالمية. بدائل لمضيق هرمز تنظر دول الخليج إلى أن إغلاق الممر الذي يعبر منه نحو 40 في المئة من إجمالي صادرات الخليج للأسواق العالمية على أنه إعلان حرب، وهذا الموقف تشاركها فيه كبرى الدول الصناعية التي تعتمد بكثافة على استيراد النفط مثل اليابان. حتى لو أغلقت إيران مضيق هرمز فإن دول الخليج ليست تحت رحمة إيران، وعلى سبيل المثال تملك الإمارات خط أنابيب يستطيع نقل 2.5 مليون برميل يومياً من النفط بعيداً عن مضيق هرمز، كما أن ميناء ينبع السعودي يمكنه شحن نحو خمسة ملايين برميل يومياً. والأهم من ذلك أن الحقائق الأساسية في أسواق النفط العالمية تجعل التهديدات الإيرانية جعجة لا طحناً، فمن ناحية لم تعد أسواق النفط تتأثر بما تقرره شركة واحدة ولا دولة واحدة ولا حتى مجموعة من الدول. وأولى هذه الحقائق أن الموقف الإيراني يتجاهل الإجماع الذي تحقق داخل منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك»، والذي شاركت إيران بنفسها في صنعه جنباً إلى جنب مع كبار المنتجين من داخل وخارج المنظمة عندما وافقت على تخفيف قيود الإنتاج لتحقيق الاستقرار في السوق وموازنة العرض. وربما يرى بعض المحللين أن أسواق النفط تعاني حالياً بالفعل نقصاً في الإمدادات، وأي حجب للنفط الإيراني عن الأسواق سيؤدي إلى نقص شديد في المعروض وارتفاع شديد في الأسعار بكل ما يحمله ذلك من تداعيات على الاقتصاد العالمي وحركة التجارة الدولية. وفي الحقيقة فإن ما يراه المحللون يتجاهل أن معظم النقص الحاصل في الأسواق حالياً نابع من اعتبارات عارضة تتعلق بعملية صيانة دورية كما هو الحال في مصافي ألبرتا الكندية كندا أو نتيجة اضطرابات أمنية كما هو الحال في لبيبا وأنغولا. وهذه الاعتبارات سرعان ما تزول ويعود الإنتاج إلى مستوياته الطبيعية وبالتالي لا يجب أخذها في الحسبان. والأهم من كل ذلك أن دولة مثل السعودية لديها طاقة إنتاج فائضة يمكنها أن تعوض النقص الحادث في السوق في فترة وجيزة، كما أن دولاً مثل روسيا رفعت إنتاجها من النفط إلى 11 مليون برميل يومياً، وستكون سعيدة فيما لو سنحت لها الظروف لزيادة صادراتها. ويضاف إلى كل ما سبق أن صناعة النفط الصخري الأمريكية وصلت إلى مستوى غير مسبوق في حجم الإنتاج الذي يتجاوز سبعة ملايين برميل يومياً. والخلاصة أن هذه القدرات الإنتاجية المتاحة في مناطق مختلفة من العالم تجعل التهديد الإيراني بوقف تجارة النفط عبر المضيق لدفع الولايات المتحدة للتراجع عن العقوبات بلا تأثير حقيقي على الأسواق. وفي الحقيقة فإن أسعار البترول وصلت حالياً إلى 75 دولاراً للبرميل. وبحسب بنك غولدمان ساكس، فمن المتوقع أن يرتفع السعر إلى 82 دولاراً للبرميل. وما لا تفهمه إيران حتى الآن هو أن أسواق النفط تطورت كثيراً عن الأيام التي كانت فيها الأسعار تتأثر بعنصر واحد، إذ أصبحت الأسعار حصيلة عوامل متعددة بعضها ليس له علاقة بصناعة النفط ذاتها، وإنما نابع من حركة أسواق المال العالمية والتغيرات المناخية.