الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

مطالعة في كتاب «فتوى ماردين»

مطالعة في كتاب «فتوى ماردين»

كتاب «ماردين.. ابن تيمية وقتل السادات» للشيخ المحفوظ بن بيّه.

ضحوة الخميس 22 يوليو 1976 كان وزير الدولة الموريتانية للتوجيه الشيخ عبد الله بن بيّه يقول في افتتاح أحد الملتقيات الوطنية: إن المجتمع الذي نصبوا إليه هو مجتمع فاضل يسود الانسجام فيه بين الجميع، لا مكان فيه للنزاعات والمصادمات بين أنصار المرأة وخصومها، كلّنا أنصار المرأة وكذلك أنصار الرجل، وليس الوقت لخصومات ترجع إلى الترف الفكري لمجتمعات الاستهلاك، وإن التخلف يفرض علينا أن نتحرك جميعاً رجالاً ونساء للوصول إلى الأهداف الكبرى التي تنتظر أمتنا.

الكلام هذا قبل أزيد من 4 عقود، أيامها كان العالم في شيء من عافية، وعلى الأرض بقية من طهارتها الأولى، فلا جرم أن يرفع الشيخ العقيرة اليوم طلباً للسلم، وقد ملئت من بعدُ شروراً، وانتحت العافية، وارتفعت الطهارة الأولى بما أحدثه كثير من أبناء الزمان هذا!! وإن يكن من لزوم السيرورة: التدافع والتعارض، فإن بقية من الناس ما زالت تود السلام للكافة، في موازاة آخرين مهطعين إلى مباءات الشر ومثابات الإضرار بالعامة.

الشيخ عبد الله من تلك البقية التي تنبّهت في مغرب الأرض قبل عقود إلى طلائع الخطر، وهي اليوم في مشرقها تعمل على إخماد ما أوقظ من فتن، وأشعل من حرائق، لعل الأرض تسترد شيئاً من عافيتها.



مضاف إليه في محل خبر

لو كان لمنظري الحروب الحظ الموازي لِما للشيخ بن بيّه من سعة العلم، وعلو الكعب في النظر، لالتقى الجمعان عند متصل سبل الحق، واستبان لـ «منظري الحماس الأجوف» أنه بالصدق في طلب الحق، والتحري في مناهج بحوثه يتضح أين المناط؟ وأين مكامن التعلة؟

شارك الشيخ وساهم وكاتَب وباحَث وحاجَج ليصب ما يُحصّل من ماء السلم على أتون حروب الأرض.

كان يتتبع محالّ الهدم في مباني النصوص، ومواطن التحريف في معانيها، ومن فصول تلك المعاناة في إطفاء الحرائق وقف الشيخ يوماً على أين أخذ «خوارج العصر» الجذوة التي أشعلوا بها كثيراً من الأرض فصيروه هشيماً تذروه الرياح.

آماد ولم يستبن أحد ذلك التصحيف المطبعي اليسير الخطير، الذي قطفت بسببه آلاف الرؤوس البريئة!!

كانت «فتوى ماردين» بداية قصة روى شؤونها الشيخ المحفوظ ابن الشيخ عبد الله بن بيّه في كتاب صدر حديثاً.

كتاب مستوفٍ لمطلبه، موفق في عنوانه، جزل في صناعته، عذب في سرده، منتقى المباحث، بني على الاختصار تسهيلاً على القارئ دون أن يغفل التبيان، استيفاء لأشراط الإحاطة والشمول.

الشيخ المحفوظ خبر في محل مضاف إلى من نجله فمن لِبانه ارتضع صريح أشياء تلك الأرومة

.

الشيخ عبد الله بن بيّه.

عطف النسق

كانت خيوط نسيج النسق تتشكل منذ كان الشيخ المسؤول الأعلى لسياسات التوجيه في بلاده، يومها كان الشيخ المحفوظ وهو غض الإهاب جزءاً من ذلك النسق المتسق في سياقٍ مداره على الدعوة إلى السلام وسد منافذ حصول الضرر.



إعمال المصدر

تتالت الأعوام، وتتابعت أحداث وتغيرت أشياء، والنسق على نحو ما اختطه الشيخ، ولا محيد للشيخ المحفوظ عن تلك الخطى.

من تلك الشقة في حي الجيزة بالقاهرة إلى سور الأزبكية، كان مربع النسق يتسع شيئاً فشيئاً.. بين الكتب المنتشرة حوالي سور الأزبكية قرأ الشيخ المحفوظ في صفحة من رواية: «أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر، ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تزار» هنالك بدأ موسم الهجرة إلى الغرب، وأنحاء أخرى من عالم متناثر النواحي، عالم اشتعلت فيه حرائق كثيرة بأسباب كتب اشتراها شباب من بعض المكتبات المتناثرة حِذاء ذلك السور.



النكرة المفعول به

وفق الشيخ المحفوظ إلى حد بعيد في التعبير عن العلائق التي أفضت بشباب مفعول بهم، غرهم حماسٌ مصدره خواء معرفي وفراغ فكري، وقد لاقى المفعول بهم مسد فراغات «حماسهم الأجوف» في كثير من كتب ومواعظ آخرين أعلى منهم مستوى بيسير، لتنجلي سحب ضآلة فهوم هؤلاء عما سماه المؤلف بـ«السلاح من دون عقل» لتسيل دماء على «المنصة» ومنصات وساحات أخرى في أنحاء وافرة من الأرض.



تعدي الفعل ولزومه

أورد الشيخ المحفوظ في ثنايا بحثه تقابلاً بيانياً، لا يتوارد محلاً بين رواد السلام وصناع الموت، ووجد ذلك التقابل قوته البيانية في استخدامه مثالاً لتلك الموازاة بين مآرب الرئيس المصري الراحل أنور السادات وبين من تعدى فهمه إلى القاتل، وكانت شواهد المؤلف حية من كتابيْ: «البحث عن الذات للسادات» و«الفريضة الغائبة لمحمد عبد السلام فرج» الذي اعتبره المؤلف مدرك استنادات أهل التكفير والتقتيل ودار الكفر من بعد ذلك.



جمع التكسير

لم يكن الشيخ المحفوظ أول شاب يطرق جنبات سور الأزبكية توسلاً لاستزادة الحظ من المعارف المترامية في ظلال ذلك السور.

محمد نبيل البرعي شاب آخر يمم السور في واحد من أيام عام 1958 ليقع قلبه على كتاب لابن تيمية، كما وقعت عين الشيخ المحفوظ على رواية الطيب صالح، وغادر كل منهما السور، واحد يتتبع طرائق السلم، والثاني يتقصد مناهج الحرب ليكون ذلك بداية شغفه بكتب ابن تيمية وعقد قرانه مع التأثر بآراء وفتاوى الشيخ الحراني في الجهاد أيام التتار

.



الحال والظرف

أوضح المؤلف أن ما حصل بين البرعي وفتاوى ابن تيمية في الجهاد «لم يكن مساراً علمياً ولا رؤية واضحة متناسقة منبثقة عن تكوين علمي وتربوي واضح ذي أبعاد أخلاقية ودينية متكاملة، بل كان شيئاً من محض المصادفة لقي هوى في نفس البرعي المتحمس لينزل فتاوى عمرها 7 قرون على حال مُبايِن وظرف مُغايِر، فتستعيد (الدار) في نظره تصنيفها في زمان ابن تيمية».



التنازع

يرى المؤلف أن التنازع إلى هذا الفكر المتطرف مرده خلو حاضنة أصحابه من الكثافة العلمية التأصيلية، الرابطة بين إعمال الفكر الواعي والتنزيل على مناطات الحال، وقد أشار إلى أن هؤلاء «لا يربط بينهم سوى الترعرع خارج المؤسسات العلمية الأصيلة، فلم يلو أحد منهم الركب على أصول العلم وتفاصيله، ولم يسهر الليالي الطوال في الحفظ والفهم والاستظهار ومذاكرة المعارف وتلاقح الأفكار، وتوسيع الصدر في مكامن الخلاف بين العلماء أهل الفكر».

إذا ما ذا بعد؟ ما دامت الصورة تشكلت بالطريقة هذه؟ هنا يزايل التعجب مواطنه، وتتوارد الأجوبة إلى الكروع في حياض الأسئلة!



كان وأخواتها

مادام الأمر - كما أسلفنا - فإن السلسلة متصلة الحلقات و«الحماس الأجوف» يزداد شراسة أمام كوابح أهل الفن، ولواجم بقية من أهل العلم والتقوى، لكن هيهات!

وكيف التوافد إلى محل التوافق وتبيان الحق؟ فلا «متحمس» يقبل الإصغاء إلى المباحثة، أو الانقياد إلى حيث يكون الدليل! لقد صنفت (الدار) من قبل دار حرب وكفر، وفتوى الشيخ الحراني إليها مرد الأمر كله.

تواصل ما كان من قبل من شنيع الأفعال، استرشاداً بتلك الفتوى وأخواتها وبناتها، حتى كانت أحداث الـ11 من سبتمبر، حيث عانق لهيب الحرائق السماء.

بعد ذلك، كان موسم هجرة الشيخ المحفوظ يأخذ منحنى العودة إلى الشرق، «ليحمل حقيبة والده، ويقتفي خطوات سيره الدؤوب في البحث عن السلام«.



الاختصاص والاشتغال

يقول المؤلف: «كانت فتاوى أبواب الجهاد لابن تيمية من أهم ما غذت به هذه التيارات والحركات مناهجها ومسالكها في التعامل مع الواقع الاجتماعي والسياسي الحديث» مردفاً: أن والده الشيخ كان كثيراً ما يردد في كلماته وخطاباته: لا بد من فهم الناس لفتاوى ابن تيمية المتعلقة بتصنيف الدار.

يفتأ الشيخ يذكر السلم، سالكاً مناهجه طلباً لمباهجه، على يقين أن الطريق الأوحد إلى العافية هو سبيل العافية، ولا يدع الشيخ المعتادة ولا الفاذة إلا وضعها حيث يكون محلها في خدمة مشروعه السلمي، الذي انبنت أسسه على السلم بحثاً عن السلم، مسترشداً بصحيح النص ومستقيم الفهم، وما كان يترك أي رأي عتيق على عواهنه دون المراجعة والضبط والمقابلة والاستئناس بضوابط العقل وانضباطات الواقع، حتى جاء اليوم الموعود مع العثور على أخطر تصحيف في أخطر فتوى استند إليها أصحاب «الحماس الأجوف».

في يوم من أيام 2008 قال الشيخ عبد الله بن بيّه: «إن فتوى ماردين لشيخ الإسلام ابن تيمية فتوى إشكالية، تطرح الكثير من التساؤلات، وينبغي تدقيق النظر فيها، والعمل على تحقيقها من طرف أهل العلم المختصين».

بدأ أهل الاختصاص باشتغالهم على أينَ موطن الخلل في فتوى تسببت بكثير وكثير...؟؟ كان مؤدى ذلك الاشتغال جمع الشيخ ثلة من أهل الشأن، في المكان الذي كان مثابة لمنطلق الفتوى، ألا إن المكان هو «ماردين» الواقعة في جنوب شرقي تركيا، حيث المنطقة التي ولد فيها الشيخ ابن تيمية.

انعقد المؤتمر، وفي خطاب الشيخ بن بيّه قال: إن فتوى ماردين لا يمكن أن تكون على ذلك النحو الذي درج عليه نقلتها ومستخدموها.

ضجت القاعة بين مستنكر ومستفهم ومشكك، حتى قال أحد الحضور «إن التشكيك في هذه الفتوى سيؤدي إلى التشكيك في كل نقولات الموروث الديني الإسلامي».

بعد أوبة الشيخ من المؤتمر عقد العزم على البحث عن المخطوطات العتيقة للفتوى حتى يتبين الأمر، وكانت النتيجة ما توقعه الشيخ، حين تم العثور على أقدم مخطوطة لفتاوى ابن تيمية، أظهرت هذه المخطوطة خلاف ما عرفه الناس في النسخة المطبوعة، وصدحت المخطوطة بقولها: «يُعامَل» بدل «يقاتَل» التي أهدرت بها دماء كثيرة، وأشعلت حرائق في الشرق والغرب، كما كانت كلمة: (يُقَاتَلُ) أساس مستند من نظّروا لأصحاب (الحماس الأجوف).



ما لا ينصرف

انجلى الصواب ببيان الخطإ، وما زال الشيخ في رحلة طلب السلم ونشره، وعلى إثره يسير الشيخ المحفوظ وأبناء وتلامذة ومريدون..

فهل للأمر أن ينصرف بعد جلاء بطلان مستند قوم «الحماس» أم أن الأمر لا ينصرف بعد أن وُطدت دعائم ذلك «الحماس» في لعبة عالمية كبرى اختلطت فيها المصالح والمطامح والمطامع والمفاعل..؟