الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

فرنسيس واقتصاد الأخوة: فكر عالمي جديد جوهره الإنسان وليس المال

في العام الأول لبابويته، انفتحت أبواق الإعلام الغربي والأمريكي على وجه خاص، متهمة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، بأنه شيوعي، ومرد ذلك أنه ومنذ اليوم الأول له على كرسي مار بطرس، كبير الحواريين، لم ينفك يندد بالرأسمالية المتوحشة.

لم تغب تلك الانتقادات عن أعين وآذان فرنسيس، فقد امتلأت محطات التلفزة في بلاد العم سام بالانتقادات الموجهة للفقير الساكن وراء جدران الفاتيكان، والذي وصف نفسه ذات مرة بالقول «شعبي فقير وأنا منهم»، وتالياً كان يؤكد على أنه «إذا كان العالم يعيش بحسب المال فكل من يظهر أنه بإمكان الحياة أن تتحقق في العطاء والتخلي، يصبح إزعاجاً لنظام الجشع».

غير فرنسيس على أرض الإمارات العربية المتحدة حال ومآل العالم من خلال وثيقة «الأخوة الإنسانية»، والتي أتبعها برسالته البابوية الشهيرة مؤخراً «كلنا إخوة»، وها هو ومنذ بدايات العام 2020 عام القلق نهاراً والأرق ليلاً من جراء جائحة كورونا، يسعى حثيثاً لبلورة رؤية اقتصادية مغايرة عن فكر الرأسمالية النهمة، والنيوليبرالية التي لا تعرف معنى أو مبنى المودات والتضامن الإنساني الخلاق.

قبل أن تتفشى جائحة كورونا وفي يناير الماضي، بدأت الأنباء الواردة من حاضرة الفاتيكان تتحدث عن الاستعداد الذي يجري على قدم وساق لعقد مؤتمر كبير تحت عنوان «اقتصاد فرنسيس»، بهدف التوصل إلى مقترحات مستقبلية لمسارات اقتصادية عولمية بحس إنساني يراعي الفقير والغريب، لا سيما في دول العالم النامي، أو العالم الثالث كما يحلو للبعض تسميته.

جاءت القارعة وأصيبت إيطاليا بنوع خاص بهزة عميقة زلزلت كيانها على صعيد الضحايا والمصابين، ورأينا فرنسيس يسعى في الغروب وحيداً في ساحة القديس بطرس متأملاً ومتألماً، وتوقف السعي وراء قمة فرنسيس الاقتصادية التي كانت مقررة سلفاً.

غير أن صاحب الفكرة لم يتوانَ عن السعي وراء تحقيقها وهذا ما جرى طوال الأيام من 19 إلى 21 نوفمبر الجاري، عبر مؤتمر افتراضي عقد عبر الفضاء السيبراني.

أصل الفكرة

ما هي الفكرة الرئيسة وراء اقتصاد فرنسيس؟

باختصار غير مخل، إنها منطلق يتأتى من قلب وثيقة «الأخوة الإنسانية»، وعلى أساس كون البشرية كلها إخوة، لذا فان الجميع ينبغي أن يجد مستوى من الكرامة الإنسانية والحق في العيش الكريم.

اقتصاد فرنسيس هو طريقة جديدة لفهم الاقتصاد الإنسانوي الذي يجب أن يسود العالم بعدما أثبتت الرأسمالية المنفردة بمقدرات العالم فشلها في إدارة دفة العالم، ومن هنا ظهرت الفروقات الواسعة والفجوات العميقة بين الأغنياء والفقراء.

كانت فكرة فرنسيس هي دعوة شباب واقتصاديين ورجال أعمال وناشطين من جميع أنحاء العالم للتفكير معاً وللتوقيع على ميثاق بين الأجيال يهدف إلى تغيير الاقتصاد الحالي وتوفير روح لاقتصاد الغد، لكي يكون أكثر عدالة وإدماجا واستدامة.

والشاهد أنه لطالما رفع فرنسيس صوته مؤكداً أن كل شيء مرتبط بشكل وثيق بعضه ببعض في دائرة الحياة اليومية، وفي المقدمة من كل الأنشطة البشرية، خصص فرنسيس أكثر من قراءة عن أحوال البيئة ومناخ كوكب الأرض، وهو ما ضمنه إرشاده الرسولي المعروف باسم «كن مسبحاً».

يرى فرنسيس أن الرأسمالية الجائرة على الطبيعة تسببت في انقلاب أحوال المناخ، الأمر الذي أثر تأثيراً كبيراً على الأحوال المعيشية للفقراء، وأدى إلى اختلالات جوهرية في هيكلية الاقتصاد العالمي.

مواصفات اقتصاد الإخوة الذي يدعو إليه فرنسيس هو مسار يجب بناؤه من وجهة نظره، مسار لاقتصاد مختلف يحيي ولا يميت، يشمل ولا يستبعد، يؤنسن ولا يجرد من الإنسانية، يعتني بالخليقة ولا ينهبها.

إنه نموذج اقتصادي جديد ثمرة ثقافة الشركة ويقوم على الأخوة والإنصاف، والشباب حرفيو المستقبل، هم المدعوون بشكل خاص لنسج اقتصاد البابا فرنسيس.

ردود الفعل

هل وجدت دعوة فرنسيس آذاناً صاغية حول العالم استجابت لدعوته تلك؟

هذا ما حدث بالفعل، فقد تلقت أمانة الحدث داخل الكوريا الرومانية (الجهاز الإداري والتنفيذي المعاون للبابا) أكثر من 3 آلاف طلب مشاركة من شباب من 120 دولة في القارات الخمس، يهتمون بالاقتصاد والإدارة والفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم اللاهوتية وحماية البيئة والموارد الطبيعية والاستهلاك المسؤول، وأنماط الحياة والإنتاج والابتكار والعمل والتمويل والاستثمار من أجل التنمية والفقر والمساواة والكرامة البشرية والتعليم والأجيال الجديدة والذكاء الاصطناعي، والتقنيات الجديدة.

شارك البابا فرنسيس نفسه في أعمال المؤتمر، بجانب عدد متميز من الضيوف في مقدمهم محمد يونس الفائز بجائزة نوبل للسلام لعام 2006، و فابدانا شيفا، عضو المنتدى الدولي حول العولمة، وستيفانو زاماني، رئيس الأكاديمية الحبرية للعلوم الاجتماعية.

هل لهذه الاستجابة من شباب العالم وكبار مفكريه ونخبته معنى ما يتجاوز فكرة المشاركة في مؤتمر افتراضي في زمن الجائحة؟

قطعاً تعني ردات الفعل الإيجابية على دعوة فرنسيس، أن نداء وثيقة الأخوة الإنسانية التي انطلقت من أرض الإمارات العربية المتحدة في فبراير 2019 قد وجدت لها تجاوباً فعالاً وبات أثرها الإيجابي يتردد في أرجاء الكرة الأرضية.

ولعل أفضل من عبر عن معنى الاستجابة الحماسية لاقتصاد فرنسيس، كان الباحث في جامعة ميلانو، كلية العلوم السياسية، دومنيكو روسينيولي، الذي أكد أن دعوة البابا هي لاقتصاد يجعلنا نتحلى بالشجاعة لكي نكتشف مجدداً أهم جوهر للاقتصاد، ألا وهو طريقة العيش معاً، جميعنا كإخوة، وبأفضل طريقة ممكنة، ونتأكد من أن هذا الاقتصاد هو الشيء الذي يدفعنا لبناء عالم يمكننا فيه استخدام الموارد لصالح خير الجميع وليس البعض فقط.

خلاصة اقتصاد فرنسيس يمكن إجمالها في التعرف على أساسات اقتصاد أنفع وأرفع من مجرد الربح السريع، ومراكمة رؤوس الأموال، أي أن نحاول أن نفهم كيف يمكننا العيش معاً، كرجال ونساء يعيشون في هذا العالم، وما هي القواعد التي تجعل الحياة في هذا البيت جميلة وسهلة للجميع.. هذا هو اقتصاد فرنسيس الذي يتبلور في الرحم من أجل خير الإنسانية جمعاء، وقبل لقاء مدينة أسيزي الإيطالية في خريف 2021 لبلورة رؤية نهائية ترفع للمسؤولين.