الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

بين حرب الأناكوندا وبناء الثقة: رسائل جديدة في استراتيجية الأمن القومي الروسي

بين حرب الأناكوندا وبناء الثقة: رسائل جديدة في استراتيجية الأمن القومي الروسي

روسيا أعلنت خططها للأمن القومي للاستجابة للتحديات الجديدة.(إ ب أ)

كما يقول الفيلسوف البريطاني الشهير، أرنولد توينبي، في نظريته «الاستجابة والتحدي»، فإن بقاء الدول وقوتها واستقرارها يتوقف على قدرتها على الاستجابة للتحديات الطارئة أو الدائمة.

وترى القيادة الروسية ضرورة أن تكون هناك استجابة لتحديات جديدة برزت عندما غيرت الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجيتها للأمن القومي في 19 ديسمبر 2017، وقتها اعتبر الرئيس السابق دونالد ترامب، كلاً من روسيا والصين منافساً استراتيجياً للولايات المتحدة على الساحة الدولية، بعد أن كانت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 حتى 19 ديسمبر 2017 تعتبر الإرهاب والجماعات التكفيرية الخطر الكبير على واشنطن وحلفائها.

وجاء إعلان استراتيجية الأمن القومي الروسية الجديدة بعد أقل من 4 أشهر على إعلان الرئيس جو بايدن «الدليل المبدئي» لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة في مارس الماضي، والتي وضعت روسيا بجانب الصين كمنافسين للولايات المتحدة عالمياً، وبهذا لم تختلف إدارة بايدن كثيراً عن رؤية ترامب لروسيا.

ورغم أن استراتيجية الأمن القومي الروسي الجديدة التي أعلنها الرئيس فلاديمير بوتين، السبت الماضي، وجاءت في 40 صفحة، تضمنت عناصر تهديد جديدة لروسيا مثل جائحة كورونا، والمناخ، والأمن السيبراني، والتنافس في الفضاء، فإن القاسم المشترك مع الاستراتيجية القديمة التي طبقتها موسكو منذ ديسمبر 2015 هو الشعور الروسي المتزايد باقتراب الولايات المتحدة من الأراضي الروسية، وهو ما يكرره الرئيس بوتين كثيراً بأن حلف الناتو هو الذي يقترب من الحدود الروسية، وليس العكس باقتراب روسيا من الأراضي الأمريكية. وتحدثت الوثيقة الأمنية الروسية بشكل مباشر عن بعض الدول التي تبذل جهوداً بهدف تأجيج «عمليات تفكيك» داخل رابطة الدول المستقلة وعلاقاتها بالدولة الروسية. فما هي التحولات المستجدة التي تعلنها استراتيجية الأمن القومي الروسي الجديدة؟ وهل تمد روسيا يدها من خلال هذه الاستراتيجية لبناء عالم أقل توتراً؟

المناطق الخلفية

تنظر استراتيجية الأمن القومي الروسي الجديدة بقلق شديد تجاه كل ما يحدث في «المناطق الخلفية» لحدودها، خاصة الصراع المحتدم بين الداعمين لعلاقة أوثق مع موسكو، وبين الذين يسعون لربط بلادهم بالغرب والاتحاد الأوروبي، كما هو الحال في جورجيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، فالكرملين ينظر للصراع في دونباس جنوب شرق أوكرانيا على أنه استهداف مباشر لروسيا، التي ضمت شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014. ويقوم تقدير روسيا للعقوبات الغربية على بيلاروسيا على أنه إضعاف لحليف وثيق مع موسكو، كما أدى التأهب غير العادي بين روسيا وقوات الناتو في البحر الأسود إلى حادث السفينة البريطانية «ديفندر»، وكاد أن يتطور إلى اشتباك بين أسطول البحر الأسود الروسي وبين قوات حلف الناتو. لكن نظرة موسكو لنفسها وقدراتها أبعد ما تكون عن الشعور بالهزيمة في أي حرب في تلك المنطقة، فالرئيس الروسي قال إنه حتى لو أغرق الأسطول الروسي السفينة البريطانية «ديفندر» لن تشتعل حرب عالمية ثالثة، لأن حلف الناتو غير متأكد من هزيمة روسيا في الوقت الحالي. وهذا التقييم ليس فقط لدى الروس، لكنه لدى خبراء الغرب أيضاً، ففي مقالة نشرتها مجلة «ذي ناشيونال إنترست» وأعادت نشرها مواقع روسية، قال المحلل الأمني الأمريكي مارك إيبيسكوبوس «لا أحد يمكنه الجزم بنصر سريع ومقنع لحلف شمال الأطلسي على روسيا في البحر الأسود».

وتمتد دائرة الصراع بين روسيا والدول الغربية إلى منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز؛ حيث ترفض موسكو محاولات واشنطن البحث عن قواعد عسكرية في الدول المجاورة لأفغانستان، وتراه بأنه خطر على الأمن القومي الروسي، لذلك سارع الرئيس بوتن بالإعلان عن استعداد روسيا لمساعدة كل جيران أفغانستان لحماية حدودهم من تمدد الصراع الأفغاني إلى بلادهم. ويرتبط بهذا الأمر ما تخشاه روسيا من تدهور الأوضاع الأمنية حول أفغانستان، بما قد يعزز من تموضع المجموعات المتطرفة داخل روسيا أو على حدودها.

وجاء كشف الأمن الروسي لخلية إرهابية في موسكو بعد يومين من إعلان استراتيجية الأمن القومي الروسي ليؤكد مدى الخطر الذي يمكن أن تمثله الجماعات الإرهابية على الدولة الروسية، سواء من الصراع في جنوب القوقاز، أو التي يمكن أن تتسلل إلى جمهوريات روسية مثل أنجوشيا والشيشان وبشكيريا في شمال القوقاز.

ولا تقتصر التحديات التي تواجه روسيا على الجزء الغربي من البلاد أو حتى فى آسيا الوسطى، بل تخشى روسيا من نشاط دول الناتو التي تراقب حدودها الشرقية على المحيط الهادئ، فقد قالت وزارة الدفاع الروسية إن الأسطول الروسي يراقب تحركات سفينة الاستطلاع الفرنسية «دوبوي دي لوم»، وهي سفينة تابعة للقوات البحرية الفرنسية، والتي تبحر في مضيق تاتارسكي، الفاصل بين جزيرة سخالين الروسية، والبر الروسي الآسيوي، ولهذا تعتقد موسكو أن الناتو يحاول بناء حلقة من نار أو تطبيق نظرية «حرب الأناكوندا» على روسيا من الشرق إلى الغرب.

وصيغت استراتيجية «حرب الأناكوندا» لأول مرة خلال الحرب الأهلية الأمريكية من قبل الجنرال وينفيلد سكوت، قائد الجيش الشمالي، وكان جوهر الاستراتيجية يتمثل في حصار أراضي العدو من البحر وعلى طول السواحل، وقطع إمكانية الوصول إلى الموانئ ما يترتب عليه إرهاق استراتيجي للعدو.

القابلية للتنبؤ

المفاجأة الكبرى التي جاءت في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الروسي الجديدة هي أن روسيا تسعى إلى «زيادة القابلية للتنبؤ والثقة والأمن» في المجال الدولي، وهذا تحول كبير في السياسة الخارجية الروسية المتهمة دائماً من الغرب بالقيام بخطوات لا يمكن توقعها، كما حدث عندما سيطرت روسيا على القرم.

وتعتبر القابلية للتنبؤ والثقة مطلباً أمريكياً وغربياً، حيث يؤكد البيت الأبيض أن تطور العلاقات بين واشنطن وموسكو يتوقف على مدى انتهاج روسيا لسياسة قابلة للتنبؤ والثقة، وهو ما يؤكد وجود فرصة كبيرة لتحسين العلاقات الروسية الغربية في الفترة المقبلة.

حروب نووية

من أشد المخاطر التي لفتت إليها وثيقة الأمن القومي الروسي هو التحذير من حروب إقليمية تتورط فيها دول نووية عندما قالت إن «العالم المعاصر يمر بمرحلة تحول مع زيادة خطر تحول نزاعات مسلحة إلى حروب إقليمية تشمل دولاً ذات ترسانة نووية». وكثيراً ما عارضت روسيا التدريبات على الحروب النووية من جانب أعضاء الناتو، وربما تشير روسيا هنا إلى ما كشفته ألمانيا عن تدريبات للناتو في أكتوبر الماضي على الحرب النووية تحت اسم «العصر المرن»، لمواجهة ما سمي بـ«سيناريو الرعب»، وقبلها في شهر فبراير 2020 قام الجيش الأمريكي بمحاكاة لحرب نووية «ضد روسيا» أجراها في قاعدة القيادة الاستراتيجية الأمريكية في ولاية نبراسكا. حسبما نشرت مجلة «ديفنس وان» في ذلك الوقت.