الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

روسيا تستعد للخروج من شبكة الإنترنت

فى الأول من نوفمبر الماضى، خرجت روسيا –نظرياً- من شبكة الإنترنت العالمية.

حدث هذا الأمر عندما دخل مشروع قانون الإنترنت الجديد حيز التنفيذ، وهو القانون الذي يضع أساساً لشبكة إنترنت وطنية يتم بموجبها التحكم في مزودي خدمات الإنترنت الروسية عن طريق "روزكوماندزو" –وكالة الاتصالات الروسية- وهذه الخطوة تهدف إلى منح روسيا القدرة على الانفصال عن شبكة الإنترنت العالمية في حالة حدوث حرب إلكترونية، وفى الوقت نفسه فإنها تقدم شبكة محدودة للإنترنت الذي يستخدمه المواطنون الروس، مع منح الدولة سيطرة أكبر على أنشطة المواطنين عبر الشبكة الدولية.

يطلب القانون، الذي تمت الموافقة عليه رسمياً من الرئيس بوتين في شهر مايو الماضي، من جميع مزودي خدمات الإنترنت المحليين توجيه حركة المرور الخاصة بالإنترنت عبر الخوادم التي تديرها هيئة مراقبة الاتصالات في البلاد "روزكوماندزو"، وتعمل هذه الخوادم كنقاط تحكم لمرور الاتصالات حيث تفصل روسيا عن الاتصالات الخارجية وتعيد توجيه الإنترنت عبر المواقع المحلية والخوادم المحلية ضمن شبكة إنترنت على مستوى البلاد تحمل اسم RuNet.

وتقول وكالة الأنباء الروسية "ريا نوفوستى" إن هدف التشريع الجديد هو توفير "إنترنت مستدام وآمن ويعمل بشكل كامل"، وسيتم تنفيذ هذا الأمر عن طريق تطوير نسخة خاصة من نظام عناوين الإنترنت بحيث يتم إعادة توجيه المستخدمين الروس الذين يحاولون الوصول إلى المواقع الدولية إلى مواقع روسية شبيهة، وعلى سبيل المثال فإن المستخدم الذي يحاول الوصول إلى موقع "فيس بوك" يتم توجيهة إلى شبكة VK الاجتماعية الروسية عوضاً عن ذلك.

ويجادل المسؤولون الروس بأن هذا الإنترنت "السيادي" سيقوم بحماية البلاد من الأخطار التي يمكن أن تتعرض لها، إلا أن خبراء يؤكدون أنه على العكس من ذلك، فإن هذا التغيير الجوهري في بنية شبكة الإنترنت الروسي ربما يجعلها عرضة أكثر من غيرها للهجوم.

ومع الحديث الدائم عن الخدمات السحابية، والاتصال اللاسلكي غير الملموس، يتصور الكثير من الناس أن شبكة الإنترنت مجرد أداة تخيلية لا ترتكز على بنية صلبة، ولكن الحقيقة أن شبكة الإنترنت عبارة بالأساس عن مزرعة شاسعة من أجهزة الخوادم القوية، والكابلات المترابطة، وبنية تحتية هائلة للشبكات تتجاوز الحدود والمحيطات. وهذا ما يجعل التحكم بها صعباً، وبالتالي فإن القانون الروسي سالف الذكر يستهدف دفتر عناوين الإنترنت، المعروف باسم نظام أسماء المجالات DNS.

وفى جوهره البسيط فإن نظام أسماء المجالات يقوم بتحويل عناوين الإنترنت التي نكتبها في المتصفح للوصول إلى أي موقع إلى عنوان رقم IP يحدد بدقة جهاز الخادم الذي يتواجد عليه الموقع، ويستخدم النظام الروسي الجديد أجهزة وكيلة لتوجيه حزم المعلومات بعيداً عن محلل DNS العام، كما أنه ينظر إلى موقع تواجد البيانات ويتخذ قراره بناء على ذلك إما بالسماح لتلك المعلومات بالمرور أو إعادة توجيهها أو حظرها تماماً.

ويرى خبراء التقنية بعض الأمثلة للتحكم في الشبكة في العديد من الدول التي تفرض رقابة صارمة على الإنترنت مثل الصين وتركيا، إلا أن روسيا قد تواجه بعض الصعوبة في إعادة استنساخ "حائط النيران العظيم" الذي تفرضه الصين على شبكة الإنترنت لديها، ويرجع هذا الأمر بشكل جزئي إلى أن الإنترنت في روسيا تم تصميمها لتكون نظاماً مفتوحاً بالأساس وفق ما يراه الخبراء.

قامت الصين بتحجيم الوصول إلى شبكة الإنترنت العالمية منذ البداية، بعد إصدار الحزب الشيوعي الحاكم قانوناً عام 1996 (بعد عامين من دخول خدمة الإنترنت) ينص على إصدار تراخيص جميع مقدمي خدمات الإنترنت من الحكومة، وتوجيه حركة الإنترنت بشكل عام للمرور عبر شركات الاتصالات المملوكة للدولة. ومنذ ذلك الحين تم تطوير أنظمة التحكم، وضخ مبالغ هائلة ضمن تلك الجهود، ورغم النجاح الواسع لتلك السياسة داخلياً إلا أنها لا تزال غير محكمة بنسبة 100%.

وتذكر تقارير إعلامية أن روسيا أنفقت نحو 300 مليون دولار من أجل تنفيذ خطتها السيادية للإنترنت، وبينما قيدت الدولة الوصول إلى العديد من الخدمات المختلفة خلال السنوات الأخيرة، من شبكات VPN إلى تطبيقات المراسلة المشفرة، إلا أن الخبراء يشككون في إمكانية وصول الحكومة الروسية إلى مستوى السيطرة والتحكم الذي وصلت إليه الصين عبر الجدار الناري العظيم بتطبيق القانون الذي بدأ سريانه مؤخراً.

ويقول خبراء التقنية إن إحدى أهم مزايا الإنترنت هي آلية التجارة عبر الحدود، وروسيا غير قادرة على تكرار كل خدمة تقدمها الشركات غير الروسية، وكما سمحت الصين للشركات الأجنبية بتقديم البرمجيات عبر الإنترنت، ففي الأغلب لن تستطيع روسيا إغلاق مثل هذه الخدمات إذا كانت ترغب في الاستمرار في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. إضافة إلى ذلك فقد استطاعت الصين تعزيز نظام داخلي قوى للتجارة الإلكترونية، وقامت بتطوير العديد من أجهزة وتطبيقات الموبايل، وهو الأمر الذي لم تفعله روسيا بنفس الدرجة، وبالتالي يبدو من الصعب تماماً أن تقوم روسيا بالفعل بإيقاف تشغيل الإنترنت.

ويطرح الخبراء شكوكاً أخرى تتعلق بالأمن السيبرانى، حيث يعتقدون أن عزل الشبكة الداخلية عن شبكة الإنترنت لن يساهم كثيراً في تأمينها، حيث لن يحتاج الأمر أكثر من وجود هاتف محمول برقم محلي داخل البلاد للوصول إلى شبكة الإنترنت من خارجها والبدء في أي أعمال تخريبية أو غير شرعية، وهي ممارسات مألوفة ضمن معارك الأمن السيبرانى المعاصرة.

وعلى الرغم من أن التشريع الجديد يتحدث عن احتمالات غلق روسيا أبوابها عن اتصالات الإنترنت الخارجية، إلى أن العديد من السياسات المقترحة تشير إلى اتجاه أكبر بين الحكومات: "إنشاء شبكة إنترنت داخلية" Splinternets. وهذا المصطلح تم استخدامه عام 2011 لوصف "الشبكات الموازية" أو الشبكات المتعددة التي تديرها جهات خاصة لتفادي القواعد الحكومية، وخلال سنوات قليلة تغير المصطلح التقني ليصبح إشارة إلى شبكات موازية تديرها الحكومات بعيداً عن الشبكة العامة.

والحقيقة أنه لا يوجد معيار قياسي للتعامل مع تشريعات الإنترنت في البلدان المختلفة، حيث تؤثر الاتجاهات السياسية على تلك التشريعات، فبالنسبة لبعض البلدان فإن الحل المناسب هو إيقاف تشغيل الإنترنت تماماً، أو على الأقل محاولة تنفيذ هذا الأمر، بينما تركز التشريعات في دول أخرى على التحكم في سريان البيانات من وإلى تلك الدولة.

ومع ذلك، في حين أن النظرة الأمريكية للإنترنت، التي تتأثر كثيراً بتاريخها في الأسواق المفتوحة وحرية التعبير، قد تكون هي الأقرب نظرياً إلى الإنترنت المفتوح الذي اقترحه رواد الشبكة الأوائل، إلا أن تحت هذا السطح يبدو أن هيمنة وادى السيليكون العالمية على قطاع التكنولوجيا قد خلقت في النهاية دولة إنترنت ضخمة تقع عملياً تحت سيطرة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.

على سبيل المثال، تهيمن شركة "ألفا بت" وهي الشركة الأم لغوغل على عدد من يمكنهم الوصول إلى الشبكة الدولية سواء كان ذلك من خلال متصفح الإنترنت "كروم" أو عبر نظام تشغيل أندرويد، ولكن في اللحظة التي تقرر فيها حكومة الولايات المتحدة أن تفرض هيمنتها على الشبكة بدعوى الأمن يمكنها أن تفعل ذلك كما حدث مع شركة هاواوي التي تم حظر استخدامها لنظام تشغيل أندرويد كجزء من المعركة التجارية بين الصين وأمريكا.

في كل الأحوال، تتحرك روسيا لإنشاء نظام جديد يبدأ بتحجيم الاتصالات إلى الخارج عبر شبكة الإنترنت العامة، وربما يصل في حدوده النهائية إلى إنشاء شبكة إنترنت موازية داخلية، وهو ما يبدو أنه الاتجاه الذي تسعى إليه العديد من الدول المختلفة بدرجات متفاوتة.