الثلاثاء - 19 مارس 2024
الثلاثاء - 19 مارس 2024

«سمكة القمر».. أول حفرية مصرية من عصر الاحتباس الحراري القديم

«سمكة القمر».. أول حفرية مصرية من عصر الاحتباس الحراري القديم

قبل ملايين السنوات، وفي العصر الذي عقب انقراض الديناصورات، كانت الحياة على وجه الأرض تُشبه الجنة. حيوانات ترعى، وأسماك تسبح في بحر «تيثس» العظيم. فتلك المنطقة، التي تقع شرقي مصر، والتي تتميز الآن بمناخها قائظ الحرارة وتركيباتها الجيولوجية المبهرة، ورمالها الصفراء الناعمة. كانت في ذلك العصر معقلاً للكثير والكثير من الكائنات البحرية المُدهشة. تلك الكائنات التي انقرضت عن بكرة أبيها بعد أن جف البحر، وأصبح حدوده الآن أبعد بكثير عن شواطئه الماضية.. ذلك البحر المعروف الآن بالبحر الأبيض المتوسط.

بالقرب من المكان الذي يُعرف الآن باسم مدينة رأس غارب المصرية، والواقعة ضمن نطاق محافظة البحر الأحمر. وقفت شابة في عقدها الثالث أمام سيارة نصف نقل مُعطلة في قلب الصحراء. الشابة هي الباحثة سناء السيد. أما السيارة فتتبع مركز الحفريات الذي أنشأه العالم المصري هشام سلام. كانت تلك السيارة تحمل في صندوقها الخلفي «كنزاً جيولوجياً».. كنزاً يُضيف الكثير من المعلومات عن تلك الحقبة التي غزت فيها البحار الصحاري. الحقبة التي نعرفها الآن باسم حدث الاحتباس الحراري القديم الواقع بين العصر الباليوسيني والأيوسيني.



تماماً مثلما يحدث الآن؛ شهدت الأرض قبل 56 مليون سنة احتباساً حرارياً قضى على بعض الأنواع، وأجبر بعضها الآخر على التكيف. في ذلك الزمان، زادت متوسطات درجة حرارة الأرض في حدود 8 درجات كاملة. غير معروف على وجه الدقة كم استمرت تلك الزيادة.. لكن، آثارها تُكتشف بفضل البحث الأخير المنشور في دورية جيولوجي المرموقة، والذي كشف عن معلومات بالغة الأهمية عن ذلك العصر.. معلومات من شأنها التنبؤ بما قد يحدث لكوكبنا الأزرق في وقتناً الحالي.

وقالت الباحثة في مجموعة هشام سلام ونائب مدير مركز الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة، سناء السيد؛ وهي الباحثة الرئيسية في تلك الدراسة في تصريحات خاصة لـ«الرؤية»: "اكتشف الفريق حفريات تُعد هي الأولى من نوعها في نصف الكرة المداري لأسماك تُظهر مجموعة من الخصائص المذهلة التي تكشف كيف يُمكن للكائنات أن تتبنى استراتيجيات مختلفة للتكيف مع التغيرات شديدة الوطأة في البيئات المختلفة".

ما الذي يُرعب العالم من ارتفاع درجات حرارة الجو بسبب الاحتباس الحراري؟ كشفت الباحثة أن الارتفاع المُطرد في درجات الحرارة يُدمر بعض البيئات ويؤثر بالسلب على جميع الكائنات الحية. فمثلاً سيؤدي ارتفاع درجات الحرارة لذوبان الجليد في قطبي الأرض؛ هذا بالطبع يُشكل تهديداً كبيراً على الكائنات الحية التي تعيش هناك.. لكن، ما شكل ذلك التهديد وهل يُمكن أن تتكيف الكائنات الحية معه؟ هذا ما تخبرنا به سمكة سناء السيد.. السمكة المعروفة باسم «القمر المصرية» والتي استخرجتها السيد وفريقها من قلب الصحراء المصرية.

فالحفريات السمكية المكتشفة حديثاً تظهر أن الأسماك البحرية ازدهرت في بعض المناطق الاستوائية خلال فترات الاحتباس الحراري القديمة، إذ تقدم الدراسة لمحة عميقة عن نظام بيئي خلال حدث الاحترار الشديد وقد توفر رؤى لمستقبل الأرض الحار.



وصلت درجات الحرارة خلال الفترة ما بين العصر الباليوسيني والأيوسيني إلى أقصاها. توصف تلك الفترة بأنها أفضل نظير قديم لظاهرة الاحتباس الحراري في الوقت الحاضر... لكن، تلك الفترة يُحيطها الكثير من الغموض بسبب نقص الحفريات في نصف الكرة الجنوبي؛ وهي فجوة تُساهم في رتقها الدراسة الحالية.

وأضافت الباحثة أن الأسماك من بين الكائنات التي يُعتقد أنها الأكثر حساسية للتغيرات المناخية. فحين ترتفع درجات حرارة المحيطات، تضطر الأسماك للهجرة إلى أماكن أخرى، أو تموت. لكن، ما فعلته سمكة «القمر المصرية» أمر بالغ الغرابة. فعلى الرغم من أن درجات الحرارة وصلت لمستويات قاتلة لبعض أنواع الأسماك، تبنت «القمر المصرية» استراتيجية مختلفة، إذ أظهرت الحفريات التي تم العثور عليها أن تلك الأسماك قامت بـ«تخفيض حجمها» استجابة للتغيير الحادث في درجات الحرارة، حسبما ذكرته السيد في تصريحات خاصة لـ«الرؤية».

لم يكن ذلك الاكتشاف وليد الصدفة، بل جاء بالتخطيط. فقبل نحو 6 سنوات، وضع عالم الحفريات المصري هشام سلام خطة طويلة المدى لـ«مسح مصر»، واستخراج الحفريات من كل المناطق الجيولوجية المختلفة. قال سلام في تصريحات خاصة لـ«الرؤية»: "إن تلك الخطة مكنت الفريق الذي يرأسه من اكتشاف مجموعة مهمة من الحفريات، من ضمنها جوهرة تاج الحفريات المصرية.. الديناصور منصوراصورس".

كانت بداية تلك الدراسة في عام 2015، خرج الفريق في بعثات متتالية للعثور على حفريات من زمن الاحتباس الحراري القديم.

فداخل الصحاري وبالقرب من الطبقة الجيولوجية لذلك المكان أزاح الفريق مجموعات من الصخور الثقيلة عن العروق الجبلية للكشف عن طبقة ذلك العصر. وقالت السيد: «كشف البحث عن أكثر من 300 عينة من الأسماك، لها مشهد بديع داخل الصخور، وذات جودة عالية ومحفوظة بشكل جيد للغاية».

تقدم الحفريات التي تم العثور عليها أول صورة واضحة لتنوع الأسماك العظمية البحرية في المناطق الاستوائية خلال فترة الاحتباس الحراري. قدرت الدراسات السابقة أن درجات حرارة سطح البحر في بعض أجزاء المناطق المدارية ربما تجاوزت 35 درجة مئوية في ذلك الوقت، ما يشير إلى عواقب وخيمة على أسماك المحيطات المنخفضة.

تمكنت الحفريات المصرية التي عثر عليها الفريق البحثي -الذي قادته سناء السيد، وأشرف عليه سلام، وشارك فيه باحثون من الولايات المتحدة الأمريكية- من التقاط نظام بيئي سليم به سلالات سمكية متنوعة ومجموعة متنوعة من النظم البيئية. يتشابه تكوين مجتمع الأسماك في تلك المنطقة مع أحافير الأسماك في عصر الاحتباس الحراري القديم والتي تم الكشف عنها من مواقع في خطوط العرض العليا، بالقرب من دول الشمال الأوروبي.

وفي حين أن العواقب التطورية الأوسع للأسماك البحرية في ذلك العصر لا تزال غير معروفة، فإن الأدلة الحفرية المتاحة لا تشير إلى حدوث أزمة واسعة النطاق بين الأسماك البحرية في ذلك الوقت. ففي الواقع، تكشف الحفريات المتاحة عن وجود حلقة مهمة من التنويع التطوري بين مجموعات الأسماك الحديثة الرئيسية، على غرار الأنماط التي تم الإبلاغ عنها للثدييات التي تعيش على الأرض.

تشير الحفريات المكتشفة إلى أن الأسماك البحرية في ذلك الوقت كانت ببساطة أكثر مرونة مما كان يعتقد الباحثون. فرغم درجات الحرارة العالية، تطورت تلك الأسماك وازدهرت عندما كان المناخ بالفعل أكثر دفئاً بعدة درجات من اليوم.

وبسبب اكتشاف تلك الحفريات، يمكن لعلماء الأحافير تجسيد سجل جديد لها في مناطق مهمة مثل المناطق الاستوائية والمدارية، مما يساعد على سد الثغرات في قصة الحياة على الأرض.

وبحسب الدراسة، التي اطلعت عليها الرؤية، عُثر على حفريات سمكة «القمر المصرية» في طبقة من الصخر الزيتي الرمادي الداكن، وتشمل أمثلة لأكثر من 12 مجموعة من الأسماك العظمية النموذجية لعصر الإيوسين، العصر الجيولوجي الذي بدأ مع عصر الاحتباس الحراري.

العينات التي عُثر عليها من الأسماك الكاملة وفيرة نسبياً، لكن العديد منها لأسماك صغيرة الحجم، يبلغ طولها الإجمالي بوصة واحدة أو أقل.

والمجموعة التي تنتمي لها تلك الأسماك تسمى percomorph acanthomorphs - والتي تُشبه مجموعة من أسماك الولايات المتحدة المألوفة والمعروفة اليوم مثل الوالي، والباس؛ وهي أكثر أنواع الأسماك تنوعاً في رأس غارب.

وتشمل الأسماك الأخرى المكتشفة في الموقع مفترسات تسمى بوني تونغز؛ والتي يعيش أقاربها في المياه العذبة.

أما أكثر أنواع الأسماك وفرة في المجموعة فهو سمكة القمر من جنس «مين»؛ وهي ممثلة بأكثر من 60 عينة. ولا يزال أقاربها على قيد الحياة اليوم.

ولكن خلال فترة الاحتباس الحراري القديم، سكنت هذه الأسماك المناطق المدارية وتم العثور عليها أيضاً في أقصى الشمال مثل الدنمارك، وهو الأمر الذي يوضح كيف سمحت الفترة الدافئة لبعض الكائنات بتوسيع نطاقاتها.

لكن، ما الرؤى التي يمكن أن توفرها أحافير الأسماك المصرية القديمة عند التفكير في كيفية استجابة الحياة الحالية على الأرض للتغير المناخي الذي يسببه الإنسان؟ يبدو أن أحد الدروس هو أن مجموعات مختلفة من الكائنات الحية تظهر استجابات متناقضة لأحداث الاحترار الشديد.

في حين نجت أسماك رأس غارب المكتشفة خلال تلك الفترة، فقد تم القضاء على النظم البيئية للشعاب المرجانية عملياً عند خطوط العرض المنخفضة، بينما أظهر المحار والقواقع استجابة صامتة ويبدو أن بعض أنواع العوالق قد تنوعت. هذا يعني أن التأثيرات على النظم البيئية تنطوي على تفاعل مجموعات متعددة، وبالتالي لا ينبغي اعتبار بقاء مجموعة واحدة في عزلة كدليل على أن تغير المناخ أمر يجب تجاهله.

ووفقاً لبعض التقديرات، يقوم البشر الآن بإطلاق ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بأكثر من 10 أضعاف المعدل الذي أدى للاحتباس الحراري خلال ذلك العصر والذي فيه استجاب المناخ العالمي للكربون المضاف عن طريق الاحترار من 5 إلى 8 درجات مئوية على مدى آلاف السنين. وبالتالي فسيناريوهات الانبعاثات الواقعية تضعنا اليوم على مسار نصف هذا الاحترار على مدى بضعة قرون فقط... وليس آلاف السنوات.

وقالت السيد: "إن تلك الدراسة بمثابة تحذير شديد اللهجة لما يُمكن أن يفعله الاحتباس الحراري بالكائنات الحية. فبعضها قد يموت، وقد يبقى بعضها الآخر، لكن الأكيد هو أن الناجين لن يشبهوا أسلافهم على الإطلاق.. فللتكيف مع درجات الحرارة ثمن باهظ.. ثمن قد لا يستطيع البشر سداده بسهولة".