الثلاثاء - 16 أبريل 2024
الثلاثاء - 16 أبريل 2024

نتفليكس.. تعيد هيكلة البث التلفزيوني

نتفليكس.. تعيد هيكلة البث التلفزيوني
في الماضي غير البعيد، كان مشاهد التلفزيون يضطر للانتظار لمدة أسبوع كامل قبل أن يتمكن من متابعة الحلقة الجديدة من برنامجه أو مسلسله المفضل، وهو البرنامج الذي كانت تبلغ مدة عرضه ما يقرب من ساعة تقطعها الفواصل الإعلانية، وإذا حدث لسبب أو لآخر أن تأخر المُشاهد عن الوصول قبل بدء الحلقة فلم يكن هناك أي وسيلة سهلة لاستعادة ما تم إذاعته، ولكن اليوم تغير هذا الوضع تماماً، والسبب الرئيس في ذلك تطور تكنولوجيا البث التلفزيوني عبر الإنترنت من خلال شركة رئيسة تسمى «نتفليكس»، الأمر الذي جعل الخبراء يطلقون بكل ارتياح على العقد الماضي أنه «عقد نتفليكس» عندما يتعلق الأمر بالتلفزيون.

مع بداية هذا العقد، كانت مشاهدة المحتوى الترفيهي تتم عبر شبكات التلفزيون التقليدية، أو الأجهزة الحديثة مثل مشغلات أقراص DVD أو حتى أجهزة الفيديو المنقرضة بأشرطة VHS، وكانت أبرز تلك المواد تتعلق بالمسلسلات التي نجح الكثير منها، وهي في الأغلب دراما متنوعة مدتها ساعة مع العديد من خطوط المؤامرة التي تحتاج لمشاهدتها بالتتابع أسبوعاً وراء الآخر، إلا أن المشاهد بدأ يفقد اهتمامه بجداول العرض الصارمة تدريجياً.

البداية المبكرة للتغيير جاءت مع شركة «هولو» عام 2008، التي بدأت بتقديم خدمة بث الفيديو المدعوم إعلانياً، لكنها في نوفمبر 2010 أطلقت خدمتها المدفوعة بالاشتراكات لتقدم مواسم كاملة من بعض العروض والدراما التلفزيونية، وفي نفس الوقت الذي بدأ فيه الجمهور ينصرف عن التلفزيون العادي، لكن التغيير الحقيقي بدأ مع نتفليكس.


ظهرت شبكة «نتفليكس» عام 1998 كخدمة لتأجير أقراص DVD، حيث يمكن أن يختار المستهلك الفيلم الذي يرغب فيه من القائمة المتاحة عبر الإنترنت، ثم يتلقاه بعد ذلك عبر خدمة البريد، ولكن خلال فترة قصيرة بدأ بيزنس التأجير نفسه ينهار نتيجة المنافسة المختلفة التي قدمتها شركات مثل أبل وأمازون وول مارت، والتي سمحت للمستخدم بتنزيل المحتوى رقمياً دون حاجة لانتظار توصيله إلى المنزل.


ولكن في عام 2007، أطلقت نتفليكس مفهوماً جديداً قدر له أن يغير شكل الترفيه المنزلي والطريقة التي يستهلك بها المواطن المحتوى التلفزيوني، وبدأت النسخة الأولى من الشبكة على مستوى محدود برفع 1000 فيلم على الشبكة والتي كانت نسبتها لا تتجاوز 1% من 70 ألف نسخة فعلية تمتلكها الشركة، وبعدها بدأت في رفع المزيد من هذه الأعمال لتصبح أشهر شركات البث التي نعرفها اليوم.

وطبقاً لدراسة حديثة أجراها مركز أبحاث «هورتيز» عام 2019، كان 15% من مشاهدي التلفزيون في عام 2010 يستخدمون البث عبر الإنترنت مرة واحدة على الأقل أسبوعياً، لكن هذه النسبة وصلت حالياً إلى 65% من مشاهدي التلفزيون وفقاً للدراسة. ويمكن إعادة هذا الأمر إلى الصعود الكبير لشبكات البث وعلى رأسها نتفليكس مع ابتعاد المشاهد أكثر وأكثر عن خدمات الكابل التقليدية.

في 2014 قررت نتفليكس التوسع على المستوى الدولي للسماح باستفادة المزيد من المستخدمين من أعمالها، وهذا الأمر سمح للجمهور من أكثر من 40 دولة بالانضمام إلى المنصة ومشاهدة الأفلام والمحتوى بدقة عرض عالية. الخدمات التي تقدمها نتفليكس كانت أقل في الكلفة من خدمات قنوات الكابل التقليدية، مع إمكانية إنشاء أكثر من حساب لأفراد الأسرة بنفس الاشتراك، الأمر الذي يمنح كل مستخدم خصوصية مختلفة لمشاهدة المحتوى الذي يلائمه، وساعد على زيادة شعبية الشبكة إمكانية استهلاك هذا المحتوى باستخدام أي جهاز ذكي متاح مثل الموبايل والتابلت والكمبيوتر، وليس التلفزيون وحده.

هناك أسلوب آخر غيرت به نتفليكس فكرة التلفزيون التقليدية من خلال السماح بتصفح ومشاهدة عدد هائل من العروض والأفلام دون مشاهدة إعلان واحد، وهذا الامتياز يسمح للمستهلك بالجلوس لفترة طويلة لمشاهدة ما يحلو له دون تشتيت أو مقاطعة.

أيضاً لم تعد شبكة نتفليكس مجرد مزود ومنسق للمحتوى الشائع الذي تنتجه الشركات والشبكات الأخرى، حيث تطورت الشبكة لتكون مزوداً للمحتوى الأصلي الجذاب. ويساعد التطبيق عبر نشر المحتوى الأصلي على منح الجمهور منصة لمشاهدة المحتوى والحوار حوله، الأمر الذي أدى لظهور قواعد جماهيرية مترابطة تتمحور حول عمل معين للمناقشة والحوار باستخدام الإنترنت، وهو الأمر الذي أدى إلى تعاظم الشعور بالانتماء الافتراضي.

في عام 2011، وقعت نتفليكس عقد إنتاج أول دراما أصلية من إنتاجها، وهو المسلسل السياسي الشهير «هاوس أوف كاردز» وقامت بخطوة غير مسبوقة عندما أطلقت الحلقات الـ13 التي يتكون منها الموسم الأول مرة واحدة في الأول من فبراير عام 2013، وفي يوليو من العام نفسه أطلقت الموسم الأول الكامل من مسلسل دراما السجون «البرتقالي هو الأسود الجديد»، وخلال السنوات التالية ارتفعت ميزانية إنتاج المحتوى الخاص، حيث قامت الشركة بإنفاق ما يقرب من 15 مليار دولار في عام 2019 وحده لإنتاج المحتوى وفقاً لتقرير نشرته «فوربس».

أدمن المشاهد على الفور هذا النمط الجديد من استهلاك الدراما، وبدأ التحول الثقافي في التسارع، وجاءت كلمة «المشاهدة المتتالية» كثاني كلمة للعام في قاموس أوكسفورد لعام 2013 مباشرة بعد كلمة «سيلفي»، ودعمت نتفليكس هذا النمط الاستهلاكي وأطلقت استبياناً واسعاً لمعرفة كيف يشاهد الناس الحلقات المتتابعة ولماذا.

كبير مسؤولي المحتوى في نتفليكس في ذلك الوقت تيد ساراندوس، قال إن بيانات المشاهدة الخاصة بالشبكة تظهر أن غالبية المستهلكين يفضلون توافر المواسم الدرامية بأكملها لمشاهدتها بالطريقة والوقت الذي يرغبون فيه.

تتيح نتفليكس أيضاً لعملائها المرونة الكاملة من حيث الوقت، فبدلاً من الطريقة التقليدية لمشاهدة التليفزيون، حيث تتحكم القناة في مواعيد العرض وجداول التشغيل، يتمكن مُشاهد البث عبر الإنترنت من اختيار الوقت الذي يلائمه لمشاهدة ما يفضله، كما تتيح التكنولوجيا التوقف في أي وقت واستعادة المشاهدة من النقطة التي تم التوقف عندها.

ولكي تنجح هذه الشبكات في إبقاء المتفرج أمام الشاشة فهي تقوم بالمزيد من عمليات «الشخصنة» لتجربة المشاهدة، وطبقاً لتقرير نشرته مجلة فوربس فإن شبكة نتفليكس تنفق الكثير من الوقت والجهد والمال من أجل توفير تجربة خاصة بالمشاهدة لكل متفرج. وتسمح غالبية شبكات البث لأفراد الأسرة بعمل «بروفايل» لكل منهم تُظهر خلاله الأعمال التي يهتم بها أكثر من غيرها وفقاً لعادات المشاهدة الخاصة به، وهو الأمر الذي يناسب احتياجات المشاهد في القرن الـ21 الذي لا يستطيع الجلوس في انتظار بدء عرض برنامجه المفضل.

وعلى الرغم من توجه نتفليكس الناجح في طرح المواسم بأكملها، إلا أنه مع اشتداد المنافسة من الشبكات الأخرى بدأ في الحديث عن العودة في الاتجاه العكسي، حيث أعلنت شبكة HBO Max التابعة لشركة الاتصالات العملاقة AT أنها ستقوم ببث حلقة واحدة أسبوعياً من أعمالها الخاصة، أما خدمة «ديزنى» للبث التي انطلقت مؤخراً فهي أيضاً تقوم ببث حلقات أسبوعية من أعمالها مثل سلسلة «ماندالوريان» المقتبسة من سلسلة حرب النجوم، أما خدمة أبل فقد بدأت بإطلاق 3 حلقات من أعمالها الخاصة مثل مسلسل «ذا مورنينج شو» وبعدها بدأت في إطلاق حلقة واحدة أسبوعياً.

هذا الاتجاه الجديد لدى شركات الميديا يأتي على أمل أن تقوم جداول البث طويلة الأمد بخلق حالة من الحوار والدعاية ومشاركة تجربة المشاهدة وتتابع الأحداث بطريقة أكثر توسعاً من إطلاق المواسم بكاملها كما تفعل نتفليكس مثل الأيام الخوالي، ولكن يبقى من المبكر الحكم على مدى نجاح هذه التجربة في الوقت الحالي، وبغض النظر عن الاتجاه الذي ستسير إليه الأمور إلا أنه من المؤكد أن «نتفليكس» وعلى مدى العقد الماضي غيرت بشكل نهائي الطريقة التي يشاهد بها الناس التلفزيون.