الخميس - 18 أبريل 2024
الخميس - 18 أبريل 2024

«الذكاء الاصطناعي» يقتحم عالم الموسيقى

يوماً بعد يوم نسمع عن تطور جديد في أنظمة الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، فبعد دخول تلك الأنظمة غرف الأخبار لتحرير القصص والتقارير الإعلامية، وقدرتها على هزيمة أفضل اللاعبين المحترفين في البوكر والشطرنج، وإمكانية اكتشاف الكويكبات القادرة على تدمير الكرة الأرضية، جاء الدور الآن على التفوق في مجال التأليف والإبداع الموسيقى، وهو مجال ظل طويلاً حكراً على البشر لاعتماده الأساسي على فكرة الابتكار الخلاق.

القفزة الجديدة في هذا المجال جاءت مع إعلان معمل OpenAI المتطور لأبحاث الذكاء الاصطناعي، والذي أسهم في تأسيسه رجل أعمال التكنولوجيا الشهير، إيلون ماسك، مع عدد من أقطاب صناعة التكنولوجيا، عن إطلاق نظام حمل اسم Jukebox، وأصبح قادراً للمرة الأولى في التاريخ على توليد أغنيات كاملة بمجرد استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة من نوعية الشبكة العصبية مفتوحة المصدر.

الحقيقة أن محاولات التأليف الموسيقي الآلية بمساعدة الكمبيوتر ليست جديدة، إذ يمكن رصد العديد من التجارب لزمن يعود إلى 50 عاماً ماضية، وكان الاتجاه العام في هذا المجال هو توليد الموسيقى بشكل رمزي على أشكال قوائم البيانو، والتي تحدد توقيت ودرجة وسرعة كل نغمة، والأداة التي تقوم بالعزف لكل نوتة موسيقية تتم كتابتها، والحقيقة أن هذه التجارب أدت إلى نتائج رائعة مثل إنتاج أعمال كورال باخ، ومقطوعات موسيقية متعددة الألحان تعزف باستخدام آلات مختلفة، وصولاً إلى مقطوعات موسيقية طويلة من إنتاج الكمبيوتر بالكامل.


لكن شركة OpenAI خطت خطوة هائلة ومختلفة في هذا المجال، مع نظام Jukebox الجديد، إذ تميز بتقديم مقطوعات موسيقية جديدة تماماً مكتملة بالكلمات، وحتى الغناء بأصوات مختلفة، ويقدم هذا التطبيق مجموعة من المزايا تجعل منه - كما ذكر الخبراء - أفضل برنامج بالذكاء الاصطناعي لتأليف الموسيقى تم التوصل إليه حتى الآن.


للوصول إلى تلك النتائج المدهشة، تم تدريب النظام على مجموعة ضخمة من البيانات الموسيقية التي شملت كل الأنواع الموسيقية تقريباً، حتى يتمكن الجهاز في النهاية من إنشاء وابتكار أغانٍ جديدة تماماً،

وهذه الأغاني الجديدة تشبه إلى حد كبير أعمال الفنان أو الفنانين الذين تدرب النظام على أعمالهم.

ومثل الكثير من أنماط تعلم الآلة في مجال الفنون، إذ تتعلم الأجهزة كيف تنقل أنماط الرسومات أو الأعمال الفنية المرسومة من صورة إلى أخرى، ويكتشف نظام Jukebox كيفية تقليد أنماط وأساليب وأنواع الموسيقى، كما أنه يعيد أيضاً تصميم وتوزيع الأغاني وأساليب الغناء لمطربين بعينهم.

وخلال إنجاز العمل في هذا النظام، استخدم الباحثون 1.2 مليون أغنية لتدريب Jukebox، ورغم ذلك، أكدوا أن هناك العديد من القيود التي تجعل عملية الإبداع الخاصة به مختلفة عن إنجاز الموسيقى العادية بالأسلوب البشري، على سبيل المثال فالأغاني التي يتم إنتاجها تظهر تماسكاً موسيقياً داخلياً، كما أنها تتبع أنماط الأوتار التقليدية، ويمكن أن تتميز أيضاً في بعض الأحيان بمقطوعات منفردة مثيرة للإعجاب، لكنها في الوقت نفسه لا تسمح بهياكل موسيقية أكبر من النوعيات المألوفة، مثل التكرارات أو ظهور أصوات الجوقة أو الكورس.

ويقول فريق العمل في ورقة بحثية منشورة على موقعهم الإلكتروني: «أظهرنا عملياً أن نماذج العمل التي نقدمها يمكنها إنتاج أغانٍ من أنواع متنوعة للغاية من الموسيقى، والتي تراوح بين موسيقى الروك والهيب هوب والجاز وغيرها، ويستطيع النظام أن يلتقط اللحن والإيقاع والتركيبات بعيدة المدى، والجداول الزمنية لمجموعة متنوعة من الآلات الموسيقية، وذلك إضافة إلى الأساليب الغنائية الخاصة وأصوات المطربين التي سيتم إنتاجها مع الموسيقى».

النظام الجديد ليس هو الجهد الأول الذي تقدمه شركة OpenAI في هذا المجال، إذ تعمل الشركة على توليد الموسيقى آلياً منذ عدة سنوات، حيث قدمت قبل ذلك نظام MuseNet القادر على إنشاء مساقات كاملة من نوعية «ميدي» بطول الأغنية المذاعة بطريقة فعالة تسجل النغمات والمقطوعات الأساسية، لكن رغم جودة هذا النظام إلا أنه لا يقارن مع نظام Jukebox، الذي يستطيع إنشاء أغانٍ بالكامل بمقاطعها الصوتية لأي نوعية موسيقية يعرفها العالم.

ورغم دقة النتائج التي يصدرها هذا النظام، إلا أن تطبيقاته ما تزال حتى الآن محصورة في الجانب الأكاديمي، وليس من المتوقع أن نرى إحدى الأغاني التي تنتجها الآلة تتصدر قوائم الأغاني الأكثر استماعاً في وقت قريب، إذ تفتقد الأغاني المنتجة آلياً للكثير من تفاصيل براعة الإبداع البشري، ويستطيع المستمع الخبير أن يلاحظ عدم تواجد مقاطع تكرارية أو جسور لربط الكلمات، وهي النقاط التي تثبت عبقرية المؤلف أو الموسيقى البشري.

وفي الحقيقة، فإن الوصول إلى نظام Jukebox هو التطور الطبيعي لاستخدام الذكاء الاصطناعي كأداة لصنع الموسيقى، أو كوسيلة لمساعدة الموسيقيين بالتكنولوجيا الحديثة على مدى السنوات، فعلى سبيل المثال شارك المطرب الشهير ديفيد بوي، في التسعينات في تطوير تطبيق يسمى Verbasizer، كان يعمل على استلهام المواد من مصادر أدبية ويعيد ترتيب الكلمات عشوائياً لإنشاء مجموعة كلمات جديدة يمكن استخدامها في الأغاني.

وفي عام 2016 استخدم الباحثون في شركة «سوني» برنامجاً يسمى Flow Machine لإنتاج ألحان على غرار أسلوب فريق البيتلز الشهير، وتم منح المواد المنتجة إلى الملحن، بنوي كاري، الذي طور العمل إلى أغنية شعبية حملت اسم «سيارة والدي»، كما تم استخدام البرنامج ذاته في إنتاج ألبوم موسيقي كامل حمل اسم «الظل».

أما على المستوى الشعبي فقد تم دمج هذه التكنولوجيا بالفعل مع العديد من برامج صناعة الموسيقى الشهيرة مثل Logic، الذي يتم استخدامه على نطاق واسع بين الموسيقيين في أنحاء العالم.

وفي الوقت الحالي توجد صناعة كاملة مبنية على خدمات الذكاء الاصطناعي لإنشاء الموسيقى تنخرط فيها العديد من الشركات الكبرى مثل غوغل وسبوتفاي وسوني وغيرها، وتعمل غالبية هذه الأنظمة باستخدام شبكات التعلم العميق، وهو نمط من أنماط الذكاء الاصطناعي يعتمد على تحليل كميات كبيرة من البيانات، والفكرة الأساسية هي تغذية البرنامج بكميات هائلة من المواد الموسيقية الأساسية، من أغاني الرقص وصولاً إلى كلاسيكيات الديسكو، إذ يحللها البرنامج للعثور على الأنماط المتكررة، ويلتقط العديد من التفاصيل الفنية مثل الأوتار، والإيقاع، وطول النغمة، وكيفية ارتباط النغمات ببعضها البعض، لتتعلم الآلة من جميع المدخلات حتى تتمكن من إنتاج ألحانها الخاصة في النهاية.

ورغم القفزة الهائلة في المحاكاة التي يوفرها نظام Jukebox، إلا أنه لسوء الحظ، لا يمكن أن ينشئ موسيقى جديدة تماماً حتى الآن، كما أن إنتاج تلك الموسيقى يستغرق الكثير من الوقت، إذ يحتاج الأمر لنحو 9 ساعات لتقديم دقيقة واحدة من الموسيقى المبتكرة، الأمر الذي يجعل أي استخدامات تفاعلية لهذا النظام بعيدة المنال حالياً.

ورغم الترحيب الكبير بالتطور في هذا المجال، إلا أن التكنولوجيا تأتي ومعها مخاوفها المشروعة أيضاً، ومن أبرزها: هل ستتمكن الآلات في يوم من الأيام من تقديم أعمال مبتكرة ومبدعة تتخطى الإنجاز البشري؟ وهل يمكن أن تصل الأعمال الموسيقية الآلية إلى درجة من الإتقان تلغي الحاجة إلى العامل البشري في النهاية؟ إلا أن الزمن وحده هو الكفيل بالإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها.