الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

اليوان الرقمي.. عملاق صيني في الطريق

في خطوة يراقبها العالم باهتمام، تحقق الصين خطوات واسعة في اختبار عملتها الرقمية الرسمية والتي تحمل أيضاً اسم «اليوان»، حيث أعلنت عن نجاح نموذج تجريبي في مدينة سوشو القريبة من شنغهاي، بعد أن قامت السلطات بوضع ما يوازي 8 دولارات أمريكية في المحافظ الرقمية لآلاف المواطنين لإنفاقها في مهرجان للتسوق عقد في مايو الماضي.

هذه التجربة كانت جزءاً من اختبار أكبر قام به بنك الشعب الصيني والذي استهدف 500 ألف مستهلك في 11 منطقة صينية منذ أبريل الماضي، وذلك من خلال تطبيق إلكتروني يمنح المؤهلين للحصول على هذه الأموال محفظة رقمية تودع بها العملات الإلكترونية، حيث يتم استخدامها للشراء في آلاف المتاجر المشاركة في التجربة.

اليوان الرقمي، هو نسخة من العملة الصينية التقليدية، يتم إنتاجها عبر تقنية «البلوك تشين» التي تعمل بها جميع العملات الرقمية، وهي في شكلها البسيط عبارة عن دفتر أستاذ مالي لا يمكن التلاعب به، والتي نشأت من خلالها عملات مثل بيتكوين وإيثيريوم وغيرها، ولكن في الصين فإن تقنية بلوك تشين يتم استخدامها ضمن شروط معينة، بما يعنى أن «بنك الشعب» هو الذي يقرر من يحق له استخدامها.


الجولة الأخيرة من الاختبارات، يبلغ حجمها 10 أضعاف حجم الجولة التجريبية الأولى والتي جرت بالفعل في خريف 2020، بالإضافة إلى ذلك تقوم الصين بتجربة اليوان الرقمي على الحدود بين هونغ كونغ ومدينة شنزن المجاورة، وتقوم أيضاً بتطوير منصة لجعل العملة الرقمية قابلة للتداول دولياً، وتضم هذه المنصة حالياً تايلاند والإمارات وبنك التسويات الدولية.


هذه الخطوات المتلاحقة تزيد من احتمالية أن تصبح الصين أول دولة تضع عملتها بالكامل على «البلوك تشين» المصرح به رسمياً، وحتى الآن لم يتم الإعلان عن أي تاريخ للتنفيذ العملي، ولكن يبدو من التجارب المتلاحقة أن هذا الإعلان سيكون في غضون عام، ومن المتوقع أن تتم هذه الخطوة في مراحل متداخلة.

وفي مقابل الخطوات الصينية الطموحة، فإن البنوك المركزية الغربية مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي، وبنك إنجلترا، وبدرجة أقل البنك المركزي الأوروبي تتحرك جميعاً بخطوات أبطأ فيما يتعلق بـ«العملات الرقمية للبنك المركزي»، ويعود هذا الأمر للعديد من الأسباب من بينها قضايا الخصوصية عندما تكون جميع المعاملات مرئية للجمهور عبر «بلوك تشين»، وأيضاً بشأن التأثيرات المحتملة على بنوك التجزئة أو البنوك الصغيرة.

ومع ذلك، يثير اليوان الرقمي الكثير من الأسئلة المهمة حول الاستقرار المالي العالمي، بالإضافة إلى السؤال الجوهري المطروح على الاقتصادات الكبرى وهو كيفية الرد.

ويتمتع اليوان الرقمي بالفعل بوضع المناقصة القانونية، وتختلف المدفوعات التي يستخدمها اختلافاً جوهرياً عن تلك الموجودة على منصات الدفع الصينية الرقمية مثل «آلى باي» أو «وي تشات»، أو حتى الموجودة في الغرب مثل «باي بال»، حيث تقوم هذه الخدمات بتسوية المعاملات بسرعة كبيرة للمتعاملين، ولكن خلف الكواليس توجد دفاتر لعدد كبير من المعاملات بين بنوك المشترين والبائعين وغالباً البنوك الوسيطة التي تستقر حساباتها النهائية بعد ساعات أو حتى أيام.

أما اليوان الرقمي، فيتجاوز الحاجة إلى هذه البنوك، ولا توجد رسوم خدمة على العكس من جميع بدائل الدفع الأخرى، وبشكل نظري يمكن أن تكون سرعة المدفوعات أعلى، وعلى عكس العملات المشفرة الأخرى مثل بيتكوين، فإن العملة الصينية تدعمها الحكومة، وهو ما يعنى أن إصدار اليوان الرقمي هو نفس إصدار اليوان التقليدي مما يجعله آمناً تماماً، كما أنه يمنح الحكومة سيطرة أفضل على المعروض من النقد، لأنه على عكس أوراق النقد التقليدية، يستطيع المسؤولون رؤية جميع المعاملات التي تحدث في أي وقت.

الصين ليست وحدها في هذا المضمار، حيث تدرس العديد من البنوك المركزية تطوير العملات الرقمية، وبعضها، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، بينما تقول التقديرات في الاتحاد الأوروبي إن اليورو الرقمي أمامه فترة لن تقل عن 4 سنوات أخرى.

أما بالنسبة للدول الأخرى التي تتخلف عن الركب، فهناك العديد من المخاطر التي تلوح في الأفق، الأولى تتعلق بالمدفوعات الدولية، حيث تستخدم معظم المعاملات بين العملات المختلفة حالياً الدولار الأمريكي كوسيط عبر بروتوكول «سويفت» المصرفي الدولي، وهذا يعنى طلباً كبيراً على الدولار الأمريكي، والذي يجلب مزايا أخرى مثل تمكين الحكومة الأمريكية من الاقتراض بفائدة أقل من الآخرين، وفى عام 2019 على سبيل المثال، صدرت الصين وحدها بضائع بقيمة 134 مليار دولار.

أما المعاملات التي تستخدم اليوان الرقمي فلن تحتاج إلى بروتوكول «سويفت» أو إلى الدولار، وهو ما سيؤثر بشكل واضح على استخدام العملة الأمريكية في التجارة الدولية، ومع وجود أكثر من 120 دولة تعتبر الصين أكبر شريك تجاري، والكثير من الأسئلة حول التسوية بالدولار لأنها تضيف مخاطر مالية غير ضرورية، فمن المتوقع حدوث تأثيرات اقتصادية هائلة من الخطوة الصينية، ورغم ذلك تقول الصين إنها لا تحاول استبدال الدولار باليوان الرقمي، وإن الهدف الأساسي هو السماح للسوق باختيار وسيلة التسوية التي تناسبه.

أما الخطر الثاني فهو أنه إذا لم تلبِّ البنوك المركزية الطلب على النقود الرقمية، فإن قوى السوق ستفعل ذلك، حيث يتراجع استخدام النقود الورقية في الفترة الأخيرة خاصة مع انتشار فيروس كورونا الذي أدى إلى انتشار واسع النطاق لبطاقات الائتمان اللاتلامسية، وفى كل الأحوال فإن النقود الرقمية أفضل لأنها أقل كلفة للاستخدام.

أما ثالث المخاطر فيتعلق بأن البلدان التي تفشل في تبني العملات الرقمية ربما تفقد فيها البنوك المركزية السيطرة على السياسة النقدية لصالح العملات المشفرة، لأنه ببساطة إذا أصبحت العملات المشفرة غير السيادية مستخدمة على نطاق واسع لأغراض الدفع، فسوف تجد البنوك المركزية صعوبة في إدارة اقتصاداتها عن طريق تحديد أسعار الفائدة أو تغيير المعروض النقدي، وبالطبع لن يكون أمامها إلا حظر العملات المشفرة لكن هذا يعني التخلي عن جميع المزايا التي تجلبها.

اليوان الرقمي يتحول إلى أمر واقع وسط توترات متصاعدة بين الصين والولايات المتحدة وأوروبا، ومن المتوقع أن يزداد التوتر مع تحول الصين إلى المحرك الأول عالمياً لهذا النوع من العملات، وبالنظر إلى حجم المخاطر، يبدو أنه من الضروري أن تبدأ باقي دول العالم في اختبار عملاتها الرقمية على وجه السرعة لأن تقنيات «بلوك تشين» تعمل بالفعل على إعادة اختراع الطريقة التي تتم بها المدفوعات، ومخاطر التخلف عن الركب أكبر من أن يتم تجاهلها.