الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

كود إنشاء الإنترنت في المزاد

حقق السير تيم بيرنرز لي شهرته باعتباره مؤسس شبكة الويب العالمية، ورغم هذا الابتكار الذي غير شكل الحياة إلا أنه لم يربح الأموال منه، إذ منح هذا الكود للعالم مجاناً، ولكن المثير أنه بعد سنوات طويلة، فإن الرجل طرح الكود الأساسي الذي قام بتوقيعه شخصياً كرمز غير قابل للاستبدال NFT للبيع في مزاد علني عبر دار سوذبيز الشهيرة للمزادات ليصل سعره إلى 5.4 مليون دولار.

وينضم بيع الكود المؤسس للويب كعنصر رقمي غير قابل للاستبدال إلى مجموعة منتقاة من المواد المتنوعة التي تم بيعها مؤخراً بهذه الطريقة، وبعضها عبارة عن عنصر رقمي غير ملموس مثل أول تغريدة نشرها جاك دورسي، مؤسس موقع تويتر، وأيضاً عمود رأي في جريدة نيويورك تايمز، ونكهة لبطاطس برينجلز تحمل اسم كريبتو كريسب، وقسيمة إلكترونية مدى الحياة لمتاجر كراتوم للبيع بالتجزئة عبر الإنترنت، والعديد من الأشياء الغريبة الأخرى.

ولكن هذه الإضافة الأخيرة إلي القائمة المتعاظمة من الرموز غير القابلة للاستبدال تتعلق بقطعة أثرية ذات جاذبية خاصة، وهي تذكار من رائد الإنترنت، حيث قام بيرنرز-لي بكتابة الكود أثناء عمله في منظمة سيرن في سويسرا أوائل التسعينيات، وهو الكود الذي أنشأ ما سمي بعد ذلك World Wide Web المعروف اختصاراً باسم WWW أو شبكة الإنترنت، وبالإضافة إلي نسخة الكود نفسه تضمن المزاد رسماً متحركاً مدته 30 دقيقة يصور مراحل كتابة الكود، ورسالة كتبها بيرنرز لي هذا العام تشرح تفاصيل عملية كتابة الكود، كما أعلن لي أنه سيتبرع بكامل عائدات هذا المزاد، ولكنه لم يحدد المكان الذي يخطط لتوجيه الأموال إليه.


عملية البيع تمثل لحظة غريبة، فهي بشكل أو بآخر توفر فرصة للشعور بملكية جزء كبير من التاريخ، لكنها في الوقت نفسه تخلط بين عالمين مختلفين من المسارات التقنية، فالرجل كتب الكود الذي صنع الإنترنت كما نعرفه، ولم يضعه تحت حماية قانون الملكية الفكرية، ودفع سيرن لإصداره كملكية عامة مفتوحة للجميع، وهو الأمر الذي كان عنصراً حاسماً في نجاح الشبكة العالمية، وكانت أيضاً لحظة تأسيسية لحركة البرمجيات الحرة، ومثالاً على قدرة المبتكرين علي دفع التاريخ للأمام من خلال اختيار التعاون مقابل فكرة الربح الشخصي، أما المفارقة الكبرى، فهي أن هذا الكود بعد عقود من المجانية يتم بيعه الآن مقابل عدة ملايين من الدولارات.


ويمكن النظر إلى هذه الحالة بطريقة أخري، فإن بيرنرز لي لا يبيع الرمز الفعلي، أو حقوق استخدامه، ولكنه يبيع ما يمكن اعتباره نسخة موقعة، حيث إن الصعود الكبير الذي حدث في الفترة الأخيرة لما يسمى الرموز غير القابلة للتغيير NFT منح الرجل الفرصة لجمع الأموال من ممتلكاته دون محاولة استعادة حقوق الملكية الفكرية، وبفضل ابتكار NFT أصبح بمقدور بيرنرز لي (وغيره) الاستمرار في وضع الكود للاستخدام العام، وفي الوقت نفسه إغراء أحدهم لشراء شهادة ملكية وهو تغيير جوهري في هذا الإطار.

ولا يعتقد بيرنرز لي أن ما يحدث يغير أي شيء في الواقع المعيش، حيث أكد في تصريحات لصحيفة غارديان البريطانية أن ما حدث لا يغير فكرة مجانية الويب أو استخدام الكود أو حتى الكود نفسه، لأنه ببساطة لا يبيع الكود المصدري، ولكنه يبيع صورة أو نسخة قام بعملها مستخدماً برنامج بايثون قام بكتابته بنفسه لما سيبدو عليه كود الإنترنت الأصلي إذا كان موضوعاً على الحائط ويحمل توقيع مؤلفه.

ولكن عمليات البيع هذه لها آثار تتجاوز الويب، كما يجادل المؤرخ ريك بلينجر في عمود نشره بمجلة ويرد الإلكترونية المتخصصة، مؤكداً أنه لا يوجد ضرر يمكن أن يحدث للأرشيف العام ويمثل صدمة ثقافية وأخلاقية أكبر من مبيعات "الرموز غير القابلة للاستبدال"، لأن تحويل المقتنيات ذات الأهمية التاريخية إلي أموال يمكن أن يحجم إلى حد كبير وصول الوثائق المهمة والتاريخية إلي العلماء والباحثين، وهى نفس المخاوف التي يبديها خبراء تاريخ الكمبيوتر، ويقول مارك ويبر مؤسس متحف تاريخ الحوسبة أنه إذا أصبحت فكرة NFT معياراً مستخدماً على نطاق واسع فقد تصبح عملية جمع مكتبات تاريخية من أكواد البرمجيات المختلفة مسألة أكثر صعوبة، وهو ما يبدو واضحاً في بعض حالات البيع الأخيرة التي تم فيها إزالة الأصل من شبكة الإنترنت.

ولكن هذه الحالات تطرح أيضاً سؤالاً مهماً. لماذا يتكبد البعض عناء دفع الملايين مقابل شراء عمل متاح بالفعل للجميع؟، وهو السؤال الذي تجيب عليه كاسندرا هاتون التي أدارت مزاد بيع كود الإنترنت، حيث تقول إن العملية تشبه إلى حد كبير بيع المخطوطات النادرة، فعلي الرغم من وجود طبعات لا نهائية من كتاب داروين الشهير أصل الأنواع إلا أن ذلك لا يقلل الرغبة في اقتناء النسخة الأصلية وإنفاق الكثير من أجل ذلك.

وعلى الرغم من أن الكود لا ينظر إليه دائماً كقطعة فنية نادرة يجب الاحتفاظ بها مثل المخطوطات النادرة، إلا أن التجربة التي نفذها بيرنرز لي بالفعل تقول العكس، أن الكود يمكن تقديمه كفن، وهو شيء يستحق الاحتفاظ به لرمزيته التاريخية، ولكن، حتى لو تم اعتباره عملاً فنياً خالصاً، إلا أن الكود الذي تم تحويله إلى رمز لا يمكن استبداله سوف يبقى مثيراً للجدال والنقاش حول الأصالة.

تم إجراء مزاد بيرنرز لي في الوقت الذي يشهد فيه العالم انحسار الهوس بالرموز غير القابلة للاستبدال، وقد يمضي الكثير من الوقت قبل أن يشهد العالم نموذجاً آخر لمزاد الفنان بيبل الذي شهد بيع قطعة رقمية بمبلغ 69 مليون دولار في مارس الماضي، ولكن الميزة في هذا البيع أنه يقدم فرصة لفكرة بيع الكود الأصلي كقطعة فنية فريدة وتحقيق الأرباح من خلاله.