الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

تقارير حقوقية أم أحصنة طروادية؟

مرة كل عام وبشكل دوري تثير الولايات المتحدة الأمريكية، ثائرة عدد بالغ من دول العالم عليها بسبب تقارير وصفها قطاع كبير من الأمريكيين أنفسهم بأنها شقاقية لا تقوم على أسس عقلانية، بسبب اختلاف القواعد الأدبية والأخلاقية، وكذا الدينية والمجتمعية التي ترتكز عليها منطلقاتها في الداخل الأمريكي مع نظيرتها في دول وبلدان المسكونة من مشارق الشمس إلى مغاربها ومن الشمال إلى اليمين.

أحد أهم الأسئلة العقلانية التي تطرح ذاتها، ونحن بصدد مراجعة ولن نقول مواجهة فكرة قيام وزارة الخارجية الأمريكية، بإصدار تقرير سنوي عن أوضاع الحريات في العالم، والذي صدر قبل بضعة أيام بخصوص مائتي دولة: من الذي يعطي الولايات المتحدة الأمريكية الحق المطلق في سلطة الرقابة على الحريات البسيطة، ومن أي زاوية تقوم رقابتها على عقول وقلوب البشر؟ ثم وهذا هو الأهم وبكل هدوء ومن دون أي انفعالات عاطفية هل واشنطن مرشحة لهذا الدور بالفعل أم أن سجلّها يدفعها لأن تطرد خارجاً فكرة أنها سيدة قيصر التي لا تخطئ في الحال أو الاستقبال؟

جاء التقرير الأخير ليثير استغراب الكثير من أصدقاء أمريكا في المقدمة منهم المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات والبحرين، وكأن الخلايا النائمة لا تزال فاعلة وناجزة وتحمل الكثير من الأحقاد الدفينة تجاه هذا الرباعي الرافض لسياسات دولة بعينها بات أذنابها في داخل كيان أمريكا الدبلوماسي وصمة عار غير مسبوقة في تاريخ الامبراطورية الأمريكية المنفلتة.


اتهامات التقرير تتطاير، فما بين ادعاءات بمعتقلات سرية في المملكة، إلى قتل عشوائي وإخفاء قسري في مصر، مروراً بتعذيب في السجون الإماراتية، وقتل المدنيين في اليمن، وصولاً إلى تكرار ما تقدم في البحرين بدرجة أو بأخرى، يبدو للناظر أن العالم العربي أضحى بيتاً أو بيوتاً للرعب وليس دولاً ذات حضارة وكرامة للبشر.


الوزير بومبيو وفي تقديمه للتقرير يشنف الآذان بأن الحريات لا تمنحها الحكومات ولكنها مستمدة من الكرامة المتأصلة في الإنسان ولا يجوز تقييدها بشكل غير مبرر من قبل الحكومات، وحسناً قال عميد الدبلوماسية الأمريكية، ولا اختلاف معه، ولو أرهق مستشاروه أنفسهم قليلاً لأدركوا أن تكريم الإنسان فلسفة أخلاقية أصيلة عند العرب. ومن قبيل الأصول الشرعية الإسلامية التي نظرت للإنسان على أنه وجهة للتكريم، وفي حين كان سكان أمريكا الأصليين يقتاتون على التفاح من قمة الأشجار تجنباً للجوع، كان المصريون القدماء يكتبون على أوراق البردي سرديات غير مسبوقة من حقوق المرء تجاه الإله صانع الكون وتجاه الحجر والبشر والنهر.

ليس هنا مقام تفصيل الاتهامات وتفنيدها، فقط يهمنا التأكيد على أمور أساسية، وهي أن كل ما يتوجه به التقرير ينافي ويجافي فكرة الدولة الويستفالية المستقلة، ومحاولة إملاء الإرادات أمر غير مقبول في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فلكل دولة سيادتها وكرامتها، ولها ولايتها القضائية والسياسية، وما يتجاوز ذلك لا محل له من النقاش، في عالم يتغير بسرعة شديدة ومربعات قوة تخسرها الولايات المتحدة وبإقرار هينري كسينجر عميد تلك الدبلوماسية لصالح قوى دولية صاعدة أخرى.

كارثة تقارير أمريكا الحقوقية على هذا النهج أنها تقوم على بيانات غير موثوقة، بل مدسوسة من قبل من لهم مصالح في الداخل الأمريكي، مصالح مرتبطة بجماعات ضغط، ووصل الحال إلى التأثير في بعض أعضاء الكونغرس في مشهد مأساوي لسمعة الديمقراطية الأمريكية، وفي بلد يقول البعض عنه إن الديمقراطية فيه باتت تباع على الأرصفة.

هل هي تقارير حقوقية أم «أحصنة طروادية»، لأهداف أمريكية ما ورائية؟من الذي يعطي الولايات المتحدة الأمريكية الحق المطلق في الرقابة على الحريات البسيطة؟